الجَالِيَةُ هي جماعةٌ مِن النَّاس تعيش في وَطَنٍ جديدٍ غير وطنِها الأَصليّ. وجَليّةُ الأمرِ أنَّ عِشرين نَفَراً مِن الجالية المغربية قد قدّموا في أقلّ مِن سَنة خِدمةً معنوية لا تَقِلُّ قيمتُها عن الخِدمةِ المادّيةِ التي ظلَّ يُقدِّمها الملايينُ من المغاربة المقيمون خارج الوطن على امتداد عُقودٍ مِن الزمن. جاء هؤلاء اللاعبون فُرادى فكوَّنوا فريقاً ولبسوا القميص الوطني ثم نزلوا إلى الميدان للدفاع عنه، فحققوا انتصاراً كُرويّاً تلو انتصارٍ وأسْعَدوا المغاربةَ في الداخل والخارج، كما أيقظوا فضولَ الكثير مِن شعوب العالم حُيالَ هذا البلد وحضارتِه وجعلوا أخرى تتعاملُ الآن مع ذويهِ بالتوقير اللائق بهم. بَعد سَنواتٍ عِجافٍ لنا، سِمانٍ لمُدرّبِين أجانب خَذولين، كان الإشرافُ التقنيُّ هذه المرّة مغربياً، والإشرافُ الإداري مَدنياً وميدانياً. وقد نجحتِ الجامعةُ المَلكية لكرة القدم في استقطاب ورعاية أصحاب مهارات كروية عالية مِن بين أفراد الجالية، فحققتْ بِمعيَّتِهم إنجازاً رَفَعَ سُمعة المغرب وبَعثَ الشُعورَ بالاعتزاز لدى المغاربة. صحيح، الإنجازُ رياضيٌّ بالدرجة الأولى، ولكنه أيضاً ترفيهيٌّ ودبلوماسيٌّ وتسويقيٌّ بدرجةٍ كبيرة. وإذْ نستحضرُ هذا الإنجازَ بافتخارٍ، نغتنمُ هذه المناسَبةَ لكي نُدلي بالملاحظات الآتية: على ضوء النتائج التي حقّقها المنتخب الوطني، الذي يتشكَّل بنسبة تُقارب المائة في المائة مِن مغاربة الجالية، والتفاعُلِ الهائل للجمهور المغربي معه، لا بأس أنْ نتواضعَ ونعترفَ بأنّ اسم "البطولة الاحترافية" كلام فارغ، لأننا لا نتوفر حتى على بطولةٍ تُقدِّم حَدّاً أدنى مِنَ الأداء والفرجة، فما بالُك على "بطولة احترافية" تُسلّي الجمهور وتُغذّي المنتخب. الدَّوري الكُروي في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وفرنسا وإنجلترا لا يَحمِل نَعتاً ولا تفخيماً: يُسمَّى "بطولة" (الدرجة أ) وانتهى الكلام. بمعنى أنَّ كُرتَنا نحْن، مقارنةً مع الكرة الحقيقية في البلدان المذكورة، هي مجرَّد فُقّاعة. ومِنْ سُخريةِ القَدَر أنَّ الكرة الوطنية أيام ضُعف الموارد ورداءة الملاعب ودَركيّة التسيير كانت عفويةً وبذلك مُسلِّية ولذلك مُشرِّفة، بينما اليومَ العكسُ هو الصحيح: البطولةُ الوطنية هزلتْ والتغطيةُ الإعلامية هدِلتْ والجماهيرُ العاشقة جَهُمتْ رغم جِدّيةِ الإشراف الجامعي وجَودةِ الملاعب وتَوافرِ الموارد وتَطورِ الوسائل. ما يُطلَق عليه زُوراً وتَوهُّماً "البطولة الاحترافية" كثيراً ما يَكون عبارة عن فرصة لممارسة الشغب والتخريب والنهب والعنف، بل والقتل أحياناً، مما يتطلب تعبئة قوات حفظ الأمن واستنفارها قبْل وخلال وبَعد كل مقابلة قصْدَ احتواء مظاهر "الفوضى الاحترافية". والأدهى أنَّ بعض "نجوم" الإعلام الرياضي يستغلون هذه الفرصة للمُباهاة فتَسمعهُم يَشحَنون الأجواء ويَشحَذون الهِمم بلغةٍ حربيةٍ قِتاليةٍ تَجعل "المشجِّعين"، المراهقين والقاصرين، يَزدادون اندفاعاً، مسلَّحين بالمفرقَعات والشُّهب واللايزر والسيوف، رافعين بُنود وشعارات فريقهم، لِخوض غِمار المعركة ضد أنصار الفريق الخصم. يأتي هؤلاء على الأخضر واليابس وهُم في طريقهم إلى الملعب، ثم يتصرفون كما يَحلو لهم داخِلَه قبْل أنْ يُغادروه لاحترافِ العُنف والتخريب في الفضاء العمومي بحدّةٍ تُمْليها نتيجةُ المقابلة. بِربِّكم، هل هذه بطولة "احترافية" أمْ بطولة "متطرفين" (وهو معنى كلمة أُلتراس Ultras) باسْمِ كرة القدم؟ لا بأس أنْ يتعلمَ إعلاميّونا الرياضيّون مِن "هَزيج" زملائهم الأوروبيين بدل أن يُقلِّدوا ضجيجَ إخوانِهم بالخليج. مِن المفروض أنْ يَكُفّوا عنِ اللغو والصُّراخ خلال نقل المباريات وعنْ مُخاطَبة المشاهدين/ المستمعين مِن فوق، بأسلوبٍ جُلُّه وِصايةٌ عليهم. مِن المطلوب أنْ يَلطِفوا بأسماعِنا ويَحترموا ذكاءَنا فيَكتفوا بنقْل أطوار المقابلة في الملعب، بإيقاعها ومُجرَياتها، وتحليلِ أسلوبيْ اللعب والمقارنةِ بينهما وذِكر المعطيات الضرورية فقط. ولا بأس أيضاً أنْ يَكُفُّوا خلال نقْل المقابلة عن التكرار المُمِلّ للأسماء الثلاثة أو الأربعة التي يَحمِلها مَثلاً اللاعبون والمدربون مِن إسبانيا وأمريكا اللاتينية. يَكفينا أنْ يَذكُروا الاسم المخطوط على ظَهر قميص اللاعب المَعني ويَكفيهم أنْ يَستشيروا على الأقل غُوغَلْ قبْل المقابلة لكيْ يَنطِقوه نُطقاً صحيحاً. على ذِكر أمريكا اللاتينية، لا شكَّ في أنّ المشاهدين قد لاحظوا خلال مقابلةِ منتخبِنا ضد الباراغواي والشيلي قبْل مونديال قطر، وضد الأرجنتين خِلالَه ثم ضد البرازيل والبيرو بَعده، بأنَّ أجساد أغلبِ اللاعبين مَوشُومة بشكلٍ كثيف. عادةُ غرزِ الجِلد لرسْمِ أشكالٍ وخُطوطٍ عليه هي عادةٌ بشرية بدائية، حيث كان الوشمُ في الأصل دليلاً على انتماءٍ أو تَراتُبيةٍ أو طقساً مِن طقوس التعبد. ولكنَّ الوشم في أمريكا اللاتينية اليوم، وبَعد أنْ كان مَحصوراً في أوساط المجرمين، مُجسِّداً الانتسابَ إلى هذه العصابة أو تلك، اقتحمَ شيئاً فشيئاً مجالَ كرة القدم فأصبح مُوضةً عند مُحترِفيها، رُبّما في مُحاوَلةٍ لاشعوريةٍ مِنهم للتعويض عن عُقدةِ نقصٍ في القامة أو الوَسامة أو التعليم أو الأخلاق أو الثقة في النفس. ويبدو للوهلة الأولى أنه كلما زاد الجهلُ وازداد الدَّخلُ ونَقَص الوعيُ لدى اللاعب كلما كان جسَدُهُ أوْشم. طبعاً، هذا الكلام يحتاج إلى تعميق، لكنَّ نظرةً مقارِنةً خاطفة إلى أجساد اللاعبين وسلوكِهم بمختلف الدوريات الكروية تؤكِّد هذا الاستنتاج. وأخيراً وليس آخِراً، لا أحدَ يستوعبُ وُجود اللاعب وليد شديرة ضمن الفريق الوطني، ليس لأنه يلعب في الدرجة الثانية بالبطولة الإيطالية بل لكونِه لاعباً ثقيلاً، شاردَ الذهن والقدمين. ونستبعدُ أنْ يَكون بقاؤُه راجعاً فقط لكونه يُسمَّى "وليد"، مثل الركراكي أوْ قادماً مِن "كرة الشوارع" مِثله. ولكي يَضربَ عصفوريْن بحَجرٍ واحِد، لا بأس أنْ يَستغني الركراكي عنْ حمَد الله كذلك، بسببِ بُطئِه الشديد وأنانيتِه في الملعب. بكل موضوعية، شديرة وحمد الله لاعبان يُغرِّدان خارج السِّرب الوطني وسيُضرّان بأداء المنتخب أكثر مما سيَنفعانه. وفي انتظار المزيد من التألق للفريق الوطني نقول له "سِير" لأنَّ المَسار يَصنعُه السائرون.