لم يعد بوسع أحدنا أن يستوعب هلامية الخطوط التحريرية المتعددة، والتي لم تعد تلتزم بمرجعية واضحة ومحددة، بل غدت تلك الخطوط طلاميس لا ترتهن إلا بإنتاج رسائل إعلامية براغماتية محكومة بمنطق تجاري (العرض / الطلب)، ولذلك لم يعد غريبا تأسيس مؤسسات إعلامية تفتقد لرؤية إعلامية مسبقة قبليا سوى ذلك الذي يمليه المنطق المومأ له سالفا. "" والحق أن هذا الاختيار له من التبريرات ما يجعله موضوعيا إلى حد بعيد خاصة حين الاستناد إلى ما يسميه أصحاب هذا الاختيار بمبدأ إعلام القرب أساس العمل الصحافي الناجح، إلا أن هذا المبدأ يبقى موضع شك وريبة لضبابية معناه، ما يستدعي ضبطه حتى لا ينزاح عن صميم المقصود، فلا يكون إعلاما إرضائيا وعاطفيا مغاليا في الخضوع لنزوات العامة، ومنفلتا من عقال الوظيفة الإعلامية النبيلة الموجهة والبانية والهادفة التي تتجاوز سلبية الكم وتتغيى التكوين النوعي لمجتمع مثقف ومتعلم؛ يسل العامة من غوغاء مشيئي الإعلام وجاعليه مادي النزعة منبطحا لسلطة الإعلام التجاري التسويقي عبر مبدأ إعلام )الغاية تبرر الوسيلة)، ويقع فريسة الابتذال الإعلامي التثفيهي، الخاضع للوازع التجاري الذي يحتكم إلى قانون كم الجمهور أو كم المتابع الذي كلما ارتفعت نسبته؛ ارتفعت أسهم الاستشهار التجاري بمنابرهم الهلامية، منطق تجاري يجعلونه الحكم والفيصل في تحديد مشروعية النجاح الإعلامي، وبذلك يفقد الإعلام وظيفته السامية في التوجيه والتثقيف وتمكين الأمة من وسائل نموها وتقدمها. وذاك ما يملي تصحيح مسار الرسالة الإعلامية وفق تخطيط استشرافي يؤسس لمستقبل مجتمع العلم والمعرفة، وذلك بتسطير مشروع إعلامي مهني ينتشي بتطوير الحس الثقافي والنقدي ويجعل المتلقي واعيا بآليات تفكيك الرسائل الإعلامية يميز بها الغث من السمين. إن أسلوب سهرات العيوط وهز الوسط الذي تعتمده تلفزاتنا اليوم يعد الحائط الأقصر والحلقة الأضعف في تخطيط برامج إعلامية لا تنضبط لرؤية بنائية للمجتمع، ضبابية الرؤية هذه تبرز بشكل قوي في ما يتدرع به القيمون على الإعلام العمومي بالرفع من نسبة المشاهدة خلال بث سهرات العيوط، وما تسميه بالفن الشعبي (الكباريه...(. إن تخطيط برامج لا تستوعب حاجات المجتمع المستقبلي لبناء مجتمع العلم والمعرفة ليؤكد هلامية التخطيط الاستراتيجي لتطوير بنيات المجتمع والقضاء على الأمية، والانتقال إلى اللغة العالمة والمعرفة العلمية، وبالحالة هذه يكون الإعلام قد أعاد الشعبوية التي كانت رهانات المجتمع بالأمس القريب تسعى إلى تجاوزها نحو تطوير البنية الذهنية للمجتمع عبر القضاء على الأمية وتجاوز اللهجات المحكية. إلا أن قدرة قادر جعلت اعلامنا العمومي وتحت ذريعة القرب والخصوصية يعمل على تعويم كل البرامج الإعلامية بلهجات محكية لا هوية لها ولا قواعد تنظمها. وبدل الرقي بالذوق المجتمعي، والارتقاء به في سلم المعرفة والعلم، انزاح الخط التحريري للإعلام العمومي المغربي ب180 درجة نحو الشعبوية والتعويم، باعتماد اللهجات المغالية في المحلية، بالتركيز على برامج الموسيقى، مقابل تراجع البرامج التثقيفية، والبرامج السياسية بتأجيلها إلى أوقات ميتة حسب سلم قياس حجم المتابعة. ذاك ما يجعل الكل يتوقف لطرح تساؤلات حول غايات الإعلام الكبرى في التوعية وجعل التعليم مؤسسات للتكوين تحترم توابث الأمة المغربية ويعزز صروح نهضتها، في أفق تقوية بنيات مجتمعي متماسك. إن بالترخيص قنوات إذاعية جديدة ليدعو إلى التوجيه وضبط مشاريعها الإعلامية بما يهدم المصلحة الوطنية الكبرى وعلى رأسها رموز السيادة الوطنية اللغة العربية، حيث دأبت الإذاعات الخاصة على استعمال خليط هجين من الأصوات لا هو عامي ولا هو عربي ولا هي فرنسي، إن مشهدا إعلاميا كهذا يعد تهديدا حقيقيا للأمن الثقافي والهوياتي للمغاربة. [email protected]