قبل ألف وأربعمائة سنة، كان الفارس الأسمر عنترة يمتطي فرسه الأدهم الملاّطي بنظراتٍ غامضة شبيهة بنظرات نسر غاضب. لا يُروّض غضبه بالأبيض والأسود تجاه سادة قبيلته الذين يستحكمون قبضتهم حول أعناق وأرزاق البسطاء بالاستعباد والاسترقاق، ولكنهم في المقابل غير قادرين على حماية ولو أنفسهم من غارات القبائل الأخرى. ثم غضب ثان من المستوى نفسه تجاه القبيلة الجائرة التي لا يختلف حُكّامها عن سادته!! لذلك اختار عنترة الشعر والحب والحروب التي تدافع عن الحق في الوجود، حافزُه خيال الأبطال الأسطوريين للانتقام من كل ما يُشعِره بأن حقه في الحياة ناقص... حافزُه وهو يدخل الحرب فيضرب بكل قوة، مرتديا لباسه الأبيض المحبب إلى نفسه. وفي لحظة ما، في غمرة الصخب والصراخ والغبار وصهيل الخيول والعويل.. لحظة تتأرجح بين القسوة والرحمة، بين الموت كاملا أو الحياة الباقية.. لا مجال لأنصاف الحلول.. آنذاك وبعدما يمتلئ شغفا وسيفه في تناغم مع غضبه، يتذكر حبيبته عبلة، فيهُمُّ غير عابئ بتقبيل السيف وقد تضرج بالدماء.. لكن بارقةً من لمعانه عكست، مثل طيف خيال، صورتها أو فمها بالأحرى. وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ *** مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها *** لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ حضرتني صورة عنترة، في صبيحة يوم السبت، وأنا أستمع عبر "يوتيوب" لمعلقته بصوت وائل حبّال هذه المرة https://www.youtube.com/watch?v=BzlxkroUlNI، ثم صادفتُ شرحا مغربيا للشيخ سعيد الكملي، قبل أن أعود إلى الاستماع إلى المعلقة وبالي مشدود إلى تدوين شيء يُعيدني إلى الكتابة بما يمور بداخلي حول ما يجري في أيامنا الصعبة، ولمّا لم أجد مدخلا ملائما، عدتُ أُقلّب في "يوتيوب" عن قصيدة للمتنبي أمنح بها روحي سكينة، فطلعت لي أغنية الرّاب والتي تحمل اسم "المتنبي" كنتُ استمعتُ إليها في أوانها وطلعت لنفس "الرّابور" أغنية جديدة قبل يومين، فضغطتُ أستمع إلى النشيد الأخير (مع العشران) لفنان "الراب" "الرّابور" والشاعر عمر سهيلي، ابن كازابلانكا، والذي يتخذ من اسم (ديزي دروس) علامة فنية تحيل على قوافي الشوارع السفلية للمجتمع الهامشي والذي يزداد هبوطا تراجيديا. ديزي دروس، العزوة صاحب العزة، فتحَ عينيه في حي تفصله قنطرة نائمة، العبور منها لا يقود إلا إلى نفس الحياة، في مسمى "بين المدن"، وهو فضاء معلق بين زمنين وحياتين وثقافتين، ولكنه استطاع أن يُرضع أبناءه حُرقة الكلمات والأصوات الرافضة للعبور عموديا إلى الشغف الرائق. "مع العشران".. نشيد شاهق وقوي، صرخة أشبه برمي حجارة مسنونة في وجه الظلام فتجرحه وتشقُّ فجوة فيه طلع منها بصيص نور مشع. في هذا النشيد "الثوري" والذي طوّح ببكائيات الغرام بعيدا، جعل ديزي دْروس كأنما يبحثُ عن سيف يضرب به الصخرة التي تنيخ على الزمن وتعتصره، فرأى أن الأمر غير مجدٍ لأن الجائرين كُثر وأساليبهم متطورة، لذلك كتبَ الكلمات بنفسه وبحرفية شاعر إنساني أو عالمي يقف على حافّة العالم المجنون ويتكلم بروحه الجريحة وهو يضحك عاليا. فيديو كليب من خمس دقائق، وبلغة أهل الفن من مقاطع/ طراك ومشاهد كثيرة ومتوالية ومتكررة وسريعة، ممتلئة باللون والصور والرموز والإشارات كما بالوجوه والأسماء والألوان والشعارات واللباس والآلات والتواريخ والحركات.. جميعها بناء فني دائري غير مغلق ولا يجيب عن شيء ولكنه سؤال واحد من الوجه والقفا، من ثمة فالتأويلات الجزئية لا تنتهي، بينما كل تفصيل من هذه التفاصيل يبوح صراحا بالنقد والسخرية و"الكلاشات" في الحكومة وعبثها وفي كل المفارقات المضحكة والمبكية، وتلك مقدرة فائقة لديزي دروس العجيب وهو يوجّه كلامه لرئيس الحكومة ومن يشبهه "شرّحْ بلا ملحْ"، يقول له: (واش يرضى بينا لقبر/ واش يقبل علينا لبحر/ المغرب ديالنا أحسن بلاد/ وطلعتو لينا في.../ ضربنا معاكم جهنم/ ربي غا يغفر لينا بالصبر/ كيفاش باغي تربي مغاربة/ انت ما كتعرف تا كيفاش تهضر/ أنت زرق بحال كتلعب في النصر/ كتهرنط وجاع ما كتسنط/ كتهضر بحال كتصنع في النفط/ وانت أصلا معانا جاع ما مصنف/ كتجس النبض حيت كتحس بالنقص/ ما كتحملش النقد وجلس لرض/ تكالمة حبس اللغط/ اجي نقسمو معاك نص بالنص/ ضربتو اللعاقه رجا في الله/ كلنا تراب ونعاس/ لاناض الصداع وتفاصلنا/ أي لعبه طلبتها رزقني الله/). في مطلع الجنريك الافتتاحي تصريح بأن "الأحداث حقيقية وليست من خيال المؤلف"، ثم جملة أخرى هي عمق ورابط الدلالات المتشابكة يقول فيها "واللي جا قدّو السبّاط يلبسو"، بعده مشهد تمهيدي هو تمرين انتقالي بين الفن والواقع قبل أن تأتي صورة الاعتقال والعنف والاستنطاق بحضور ضابط متقاعد حقيقي، وهو المشهد المركزي المرتبط بالندوة الصحفية التي ستأتي لاحقا، فالاعتقال نتيجة السؤال والنقد والتعبير الغاضب، وقد رتّب لذلك باللعب عبر الإحالة، فالصورة تحيل على مشهد عاشه الرئيس الأمريكي بوش في الندوة الصحفية سنة 2008 ولحظة ضَرَبه من طرف الصحافي العراقي بفردة نعله، لكن ديزي دروس في ربط بالمشهد التشخيصي والكلام والألوان وشعار الحزب الحاكم لتحيل على الحكومة الحالية والموقف منها، وعلى حرية الصحافة والعيش. سيحمل فردة نعله/ شعره وغنائه ويضرب بها المسؤول (ما يفسر قول الجينيريك "واللي جا قدّو السبّاط يلبسو"، هذا الحذاء الذي سيرمي به الشاعر وجه القبح وإثره سيُعتقل (في الكليب). في المعتقل يضرب برأسه وبكلماته وتُستكمل الدلالة بخلفيات كل الصور المصاحبة من وجوه وملامح وصور وطبيعة، ثم الرقص فوق سطوح الهوامش الشعبية، سطوح بمدخنتين عاليتين.. انتصارا لرفقة "العشران" في المصير الغامض. يكتبُ ديزي دروسا في الصفحة نفسها دون العودة إلى السطر، وكأنه يعْبُرُ قنطرة "بين المدن" راجلا وراقصا، يلتفتُ إلى الميدان الفني ب"الكلاش"، وهي تقنية رائجة في هذا النوع من الغناء، مستعيدا روح أغنية المتنبي والإيحاءات المشفرة والواضحة واستعراض قوته الفنية تجاه زملاء هذا النوع الجديد. مما يستدعي العودة إلى "ربيرتوار" هذا الفنان وباقي "الرّابورات" الذين يصارعون لإثبات ذواتهم كأنهم في سباق سباحة حرّة في بحر متلاطم بلا ساحل معلوم. إبداع جديد يقدم رؤية شجاعة للجمال الفني ودوره في تحرير الخيال وفك عقدة اللسان، وهو في طور بناء نفسه وتشذيب الوحشية التي تميزه، وفرصة لمعاودة السؤال حول الأدب والفن والتأثير الممكن في أن يكون لهما دور ملموس، والرّد على قبح الواقع بشجاعة جميلة.