في مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر الفلسطيني في منطقة تل الهوى غربي مدينة غزة، حيث حط وفد طبي مغربي رحاله، دبت الحياة من جديد وسرت الدماء في عروق الأقسام الطبية والمساندة والإدارية، لتتحول حال السكون والهدوء التي خيمت على المستشفى لفترة طويلة إلى حيوية ونشاط لم يعهدهما من قبل، خصوصاً بعد حال الحصار التي فرضتها قوات الاحتلال على غزة منذ ثلاث سنوات، وشددتها بعد سيطرة حركة "حماس" على القطاع في 14 يونيو 2007. "" "القدس" عاشت يوماً مع الوفد الطبي المغربي لترصد من كثب الساعات الطوال التي يقضيها أصحاب الياقات البيضاء وهم يضمدون جراح طفل فلسطيني، ويخففون آلام عجوز أقعدته الحرب. بكلمة حانية يهدئون من روع أم أرهقها التنقل بين الأطباء بحثاً عن من يطبب مرض ابنها، وبقليل من الدواء يوفرون على أب طول انتظار في المستشفيات الحكومية التي بالكاد تستطيع طواقمها التقاط الانفاس. ما أن تدق الساعة الثامنة صباحاً حتى يكون الأطباء والممرضون والإداريون المغاربة قد أخذوا مواقعهم في أقسام المستشفى المتعددة، هم في حال استعداد كامل لتقديم الخدمات العلاجية للمرضى الذين يصلون إلى المكان قبل ذلك بساعة أو أكثر، أملاً في أن يجدوا ضالتهم على أيدي أطباء أشقاء لطالما سمعوا عن خبرتهم وكفاءتهم. "تتحول الأماني إلى واقع ملموس" كما يقول الشاب أشرف الدعابسة (26 عاماً) الذي يعاني من آلام في الظهر منذ ثلاث سنوات، يضيف "كلنا نسمع في قطاع غزة عن الأطباء المغاربة وخبرتهم الطويلة ومهاراتهم العالية. الجميع يتمنى أن يستشفى على أيديهم، واليوم هم بين أشقائهم الفلسطينيين، وهي فرصة مواتية لكل مريض أن يصل إليهم، لذلك فأنا منذ الصباح الباكر أحجز دوري هنا أمام مستشفى القدس". نفس الحال ينطبق على المواطنة انشراح أبو سيدو (40 عاماً) التي شاهدناها تحمل طفلتها وتنطلق إلى داخل المستشفى، لتجد نفسها أمام طابور طويل من المراجعين الذين فقدوا الأمل في شفاء أحبائهم، لكنهم يعودون من جديد جراء الرعاية الطبية المميزة التي توفرها الطواقم الطبية المغربية. تقول أبو سيدو "بعد ان أبلغني الأطباء أن حالة ابنتي تحتاج إلى العلاج في الخارج فقدت الأمل في شفائها لأن المعابر مغلقة، وإذا انتظرت حتى يأتي دورها لا أعلم ما الذي ينتظرها، أما اليوم فأنا مطمئنة تماماً فقد قرر الأطباء المغاربة إجراء عملية لها بعد فحوصات متكررة". ويعبر رئيس الوفد المغربي الدكتور خالد الأزرق عن سعادته وهو يقضي هذه الأيام بين الفلسطينيين، حيث قدم إلى قطاع غزة قبل حوالى شهر من المملكة المغربية على رأس وفد طبي رسمي اوفده العاهل المغربي الملك محمد السادس للمساهمة في التخفيف من وطأة الحرب على أهالي قطاع غزة، وتقديم الخدمات الطبية المتنوعة للجرحى والمرضى عبر مستشفى ميداني متكامل في كافة التخصصات الطبية. يضم الوفد 35 عضواً من أطباء وممرضين وإداريين، مع جميع احتياجات المستشفى من أجهزة ومعدات ومستلزمات وأدوية، وكلها تقدم بالمجان. يقول الدكتور الأزرق "كل إنسان عربي ومسلم لديه حلم أساسي في حياته، هو زيارة فلسطين ومشاركته أهلها معاناتهم وآلامهم تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، اليوم أشعر بالفخر والاعتزاز وقد تحقق آملي، أنا الآن على أرض غزة المجروحة بين شعب فلسطين الصامد المرابط في أرض الإسراء والمعراج من عشرات السنين من الاحتلال والتهجير واللجوء". يضيف الدكتور الأزرق "نحن جئنا كبعثة رسمية مغربية ذات أبعاد إنسانية بحتة، وقد جلبنا معنا مستشفى ميداني بكل مقوماته من أجهزة وأدوية وغرف عمليات وغيرها، وهو مقدم إلى الأهل في قطاع غزة بالمجان وبالتعاون مع الأخوة في مستشفى القدس الذين استضافونا. هذا جزء بسيط من واجبنا تجاه القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب والمسلمين الأولى". يقول "نستقبل يومياً حوالي 600 - 700 حالة مرضية في مختلف التخصصات، نقوم باجراء الفحوصات الطبية اللازمة وتقديم العلاج، إضافة إلى إجراء عشر عمليات جراحية في المتوسط يومياً، وهي عمليات كان يضطر أصحابها إلى السفر للعلاج في الخارج، وقد تتدهور حالتهم الصحية قبل أن يصلهم الدور للسفر في ظل الحصار المفروض على القطاع". يضيف "سنعالج مجموعة من المرضى في المملكة المغربية متى سمحت الظروف بذلك، خصوصاً الحالات المستعصية والتي لا توجد الأجهزة المناسبة لعلاجها في غزة، كما أننا سنوفر مزيدا من المعدات والمستلزمات للجهاز الطبي في القطاع". في ردهة قريبة يبدو اختصاصي اطفال منهمكاً في عمله وهو يكفف دموع الأطفال المرضى، يحاول أن يطمئن ذويهم ببعض الكلمات بلهجته المغربية التي تستعصي على الفهم، يتحدث باللغة العربية الفصحى قائلاً "نحن هنا لخدمتكم والوقوف إلى جانبكم فلا تقلقوا، كل أطفالكم سيعالجون إن شاء الله، وستخرجون من هنا راضون وفي أفضل حال". يقول "لم أكن أتصور أن حجم الحصار ترك بصماته السلبية إلى هذا الحد على الفلسطينيين، نحن بالكاد نستطيع التقاط أنفاسنا من كثرة المراجعين الذين يترددون علينا في شكل يومي، ومع ذلك فنحن جاهزون ولدينا كل الاستعداد لتقديم كل ما يحتاجه هؤلاء المرضى المحاصرين". ورغم حال الإرهاق الشديد التي تصيب أعضاء الوفد الطبي إلا أن ساعات النهار تمر من دون أن يشعروا بمرور الوقت أو الإرهاق، تجدهم يخرجون بين الفينة والأخرى ليشاهدوا الأعداد المتبقية من المرضى ليؤكدوا لهم أنهم لن يوصدوا الأبواب قبل أن يفحصوا كل حالة موجودة. على باب حجرة العمليات قابلنا اختصاصي جراحة عامة منهياً للتو عملية جديدة، ابتسامته لم تخف علامات الإرهاق عن وجه. يقول "في المغرب أنهي عملي مبكراً وأساهم في عدد محدود من العمليات الجراحية، لكنني في غزة لا أشعر بالتعب أو الإرهاق مع أنني لم اخرج من غرفة العمليات منذ الصباح. لدي طاقة عمل كبيرة لم أشعر بها طوال حياتي، فالإحساس بأنك تساهم في التخفيف من آلام أهلك وأشقائك المحاصرين يمنحك القوة والقدرة على العمل المتواصل". طبيب مغربي آخر يبتسم وهو يستمع الى مسنة فلسطينية تدعو له بالخير وتشكره على مجيئه الى غزة لتقديم العلاج لها ولغيرها، يدور حديث ودي بينهما يتبادل فيه الطرفان كلمات الشكر والثناء. تقول الحاجة أم عبدالناصر 64 عاماً "بارك الله فيكم وفي المغرب الذي قدمتم منه، فأنتم والله من حولتم الكلمات إلى أفعال على الأرض، ومع أن حديثكم قليل لكن أعمالكم كبيرة، تكفي هذه الجهود الطبية التي تخدم مرضانا الذين لم يتمكنوا من السفر الى الخارج". يرد عليها الطبيب المغربي "هذا واجبنا اتجاه أهل فلسطين، فأنتم من ترابطون في أرض الإسراء والمعراج، ونحن سنواصل معكم حتى النهاية، لن نغادر قطاع غزة إلا بعد تقديم الخدمات الطبية لكل من يحتاجها، كما أننا ننسق الآن لإيصال المرضى الذين يحتاجون إلى العلاج في الخارج إلى المغرب". اتجهنا إلى الطابق السادس في المستشفى مروراً بالطابقين الرابع والخامس اللذين تعرضا للقصف الإسرائيلي الذي ادى الى احتراق وتدمير اجزاء منهما. نجد الطواقم التي انتهت من تقديم العلاج للمرضى تتناول وجبة الغداء، هم في انتظار بدء الاجتماع التقييمي اليومي للعمل، لحظات ويكتمل عديد الطاقم المغربي. يبدأ كل مشارك في طرح أفكاره وتقييمه للعمل اليومي، ويتفق الجميع على توزيع مهام الأعمال في اليوم التالي. تمر ساعة أو أكثر لتبدأ فترة جديدة للوفد الطبي المغربي بعيداً عن المرضى والوصفات الطبية، حيث يستقبل الوفد في ساعات الليل المتأخر الأفراد وممثلي المؤسسات الفلسطينية القادمون لشكرهم والثناء على جهودتهم. وجدنا الشاعر والكاتب الفلسطيني عمر الخليل الذي أبدى إعجابه بعملهم، ويحاول زيارتهم في شكل شبه يومي. قليلاً ويصل وفد "المجلس العلمي للدعوة السلفية" مع نخبة من العلماء والمشايخ، يواصل الإخوة المغاربة تقديم الشاي المغربي الأخضر الى جميع زوارهم.