لقد مر يوم 14 فبراير كيوم عادي في حياة الكثيرين من المغاربة، المنشغلين أصلا بمشاكل لا حصر لها، تبدأ مع الصباح الباكر، ولا تنتهي عند ساعات الليل البهيم..إذ في الوقت الذي ينام فيه البعض قريري الأعين، تسهر عيون أخرى بسبب تفكيرها في اليوم الموالي كيف ستستطيع تدبيره وتوفير الغذاء واللباس والدواء ومصاريف الدراسة والتنقل لها ولفلذات أكبادها... ووسط هذه الأعباء ينسى الكثيرون أحد أهم مكونات الإنسان، وهو الشعور اللطيف الذي توافقت الحضارات الإنسانية على تسميته بالحب، كما ينسون التاريخ الذي حدده الغربيون لتخليد هذه الذكرى يوم 14 فبراير من كل عام... والحب أسمى من أن يسجن وراء قضبان يوم أو ليلة.. "" لقد تغيرت أشياء كثيرة في نظرتنا كمجتمع مغربي إلى هذا الشعور الغريب الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى مراتب عليا من إنسانيته، فيشعر بتغريد الطير، وحفيف الأشجار، وخرير المياه، وهي أشياء يمر عليها عادة دون مبالاة تذكر... فيكفي أن تلج إلى أي محل للأنترنت، لترى معالم هذا التغيير، وكيف ضاع مفهوم العاطفة لدى الأجيال المختلفة.. كلام ساقط فاحش، قهقهات غبية بليدة، وصور متبادلة.. وجاءت الكاميرا الرقمية لتزيد الطين بلة، فترى الفتيات الصغيرات يتلهفن لإظهار مفاتنهن أمام أولئك الغرباء الذين لم يسبق لهن أن التقين بهم.. في حين تضيع أخريات ساعات ثمينة من عمرهن في الحديث إلى شخص يدعي أنه من الخليج فترى اللهجة المغربية تتحول إلى خليجية بين لحظة وأخرى، وسط دندنات بأغاني البترودولار المعروفة.. ويحكي لي بعض معارفي العجب العجاب في محلات النت التي يلجونها: وقالت إحداهن إنها رأت فتاة تدخل الكاميرا داخل ملابسها ليعاين الغريب البضاعة كما هي.. وأعترف أنني كلما ولجت محلا من تلك المحلات إلا وأحس أن عمري يتجاوز السبعين عاما، إذ أن كل شيء تغير بنسبة 180 درجة في ظرف أقل من 15 عاما. إن الحب في مضمونه البسيط والمعروف هو شعور نبيل مرتبط بكيان الشخص نفسه اتجاه الطرف الآخر.. شعور دافئ لا يمكن لكابلات الحواسيب أن تنقله.. هو الشعور الذي جعل فارسا يهابه الجميع مثل عنترة بن شداد، يبدو حملا وديعا.. بل إن عنترة بحسب أوصافه التي تذكرها كتب الأدب يبدو شخصا جلفا قاسيا يجعلك تعتقد جازما وأنت تراه أنه مجرد صخرة صماء لا إحساس لها.. لكنه هذا الشخص الجلف هو نفسه الذي يقول: (نقل فؤادك ما استطعت من الهوى*** فما الحب إلا للحبيب الأول، كم منزلا في الأرض يألفه الفتى*** وحنينه أبدا لأول منزل).. وهو نفسه الذي يقول: (ألا ياعبلُ قد زادَ التصابيْ *** ولجَّ اليومَ قومُكِ في عذابي، وظلَّ هواكِ ينمو كلَّ يومٍ***كما ينْمو مشيبي في شَبابي، عتبتُ صروفَ دهري فيكِ حتى***فَني وأَْبيكِ عُمْري في العِتابِ).. وما أروع ما قاله عن عبلة وقد نفذ صبره بسبب لوعة الفراق: (ولَيْتَ خيالاً مِنكِ يا عبلَ طارقاً***يرى فيضَ جفني بالدموعِ السواكبِ، سأَصْبِرُ حَتَّى تَطَّرِحْني عَواذِلي***وحتى يضجَّ الصبرُ بين جوانبيِ، مقامكِ في جوِّ السماء مكانهُ***وَباعِي قَصيرٌ عَنْ نوالِ الكَواكِبِ).. وعنترة نفسه الذي تتطاير الرؤوس من أمام سيفه البتار، يرق ويدمع بسبب هذه العاطفة الجياشة التي شملت الإنسان ممثلا في عبلة، والجماد ممثلا في الصحاري وأجوائها، والحيوانات ممثلة في حصانه الذي قال فيه وهو يراه يسقط قتيلا على أرض المعركة قائلا: (فازور من وقع القنا بلبانه*** وشكا إلي بعبرة وتحمحم، لو كان يدري ما المحاورة اشتكى***ولكان لو علم الكلام مكلمي).. إن عنترة بن شداد العبسي، ذلك الفارس الأسود الذي كانت تهابه فوارس العرب، خلد اسمه في تاريخ الحب كواحد من رموزه الكبيرة الخالدة، فمزج داخل شخصيته الواحدة بين الفارس النبيل المدافع عن عرضه وقبيلته وقيم الإنسان العربي، وبين العاشق الولهان الذي يحس بحبيبته، ويحاول تجاوز عراقيل اللون والتقاليد، فينتج مضمون رائع للحب الواضح في أسسه ومفاهيمه. مثله في ذلك مثل الشاعر الوديع جميل بثينة، الذي خلد أحاسيس الإنسان العاشق في أبيات جميلة من بينها:)ارحَمِيني، فقد بلِيتُ، فحَسبي***بعضُ ذا الداءِ، يا بثينة ُ، حسبي!، لامني فيكِ، يا بُثينة ُ، صَحبي*** لا تلوموا ، قد أقرحَ الحبُّ قلبي!، زعمَ الناسُ أنّ دائيَ طِبّي***أنتِ، والله، يا بُثينة ُ، طِبّي!).. وهو الذي يقول بروعة نادرة: (وإني لأرضى من بثينة بالذي*** لو رآه الواشي لقرت بلابله، بلا، وبألاّ أستطِيعَ، وبالمُنى***وبالوعدِ حتى يسأمَ الوعدَ آملهْ، وبالنظرة ِ العجلى ، وبالحولِ تنقضي***أواخِرُه، لا نلتقي، وأوائِلُهْ..) أما مجنون ليلى، فقد بلغ في توحد حبه وعشقه مع الجنون حدا لم يسبقه أحد إليه قبله أو بعده.. ومن أقواله الرائعة: (أليسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى***كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني، تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ***وَيَعلوها النَهارُ كَما عَلاني..)وهو من شدة عشقه لليلى يرى أن الموت نفسه لا يطفئ من لهيب الوجد والهوى وألم الفراق وبعد الأحباب (لو سيل أهل الهوى من بعد موتهم***هل فرجت عنكم مذ متم الكرب، لقال صادِقُهُمْ أنْ قد بَلِي جَسَدي***لكن نار الهوى في القلب تلتهب، جفت مدامع عين الجسم حين بكى***وإن بالدمع عين الروح تنسكب). وهو لا يشكي من ليلى وحبها فيقول: (أَحِنُّ إلى لَيْلَى وإنْ شَطَّتِ النَّوَى***بليلى كما حن اليراع المنشب، يقولون ليلى عذبتك بحبها***ألا حبذا ذاك الحبيب المعذب..). ولم يكن الحب والتعبير عنه في روائع الأدب حكرا على الرجال دون النساء، بل إن سيدة مثل ليلى الأخيلية ضربت أمثلة رائعة في هذا المعنى لمحبوبها توبة ابن حمير، الذي قال فيها: (ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علي *** ودوني تربة وصفائح، لسلمت عليها تسليم البشاشة أو زقا *** إليها صدى من جانب القبر صائح).. فترد عليه هي بعد وفاته بقصائد حزينة جد معبرة منها ( أيا عين ابك توبة ابن حمير***بسح كفيض الجدول المتفجرِ، لتبك عليه من خفاجة نسوة***بمَاء شؤونِ العَبْرة المُتَحَدِّرِ، سَمِعْنَ بَهْيجَا أرهقَتْ فذكَرْنَه***ولا يَبْعَثُ الأحزانَ مِثلُ التَّذَكُّرِ، كأن فتى الفتيان توبة لم يسر ***بنَجْدٍ ولم يَطْلُعْ مع المُتَغوِّرِ)، وتضيف في القصيدة نفسها بلوعة حارقة: (فيا توب للهيجا وياتوب للندى *** ويا توب للمستنبح المتنورِ، ألا رب مكروب أجبت ونائل ***بذلت ومعروف لديك ومنكرِ).. وتقول في قصيدة أخرى (:وكل شباب أو جديد إلى بلى***وكل امرىء يوماً إلى الله صائرُ، آليْتُ لا أَنْفَكُّ أَبْكِيكَ ما دَعَتْ ***على فنن ورقاء أو طار طائر..)موكب جميل وديع من رموز الحب العذري العفيف في تاريخ هذه الشعوب المسلمة، حب يسمو بالإنسان ومشاعره إلى مستويات عليا، فيشعر المرء بقيمة الأشياء حتى الجامدة منها، ولا يرى في العاطفة مجرد برود يحقق من ورائه أهدافا تتناقض والحب نفسه.. صحيح الأشياء تغيرت، والزمن تطور، والسرعة صارت هي مقياس حياة البشر في هذا العصر.. لكن لا أستطيع أن أستوعب أن مضمون الحب تغير هو نفسه، ليصبح مجرد دردشة على الماسنجر، فيحب طرف ما طرفا آخر حتى دون أن يكلمه، بل ويصبح مصطلح الحب، مجرد عنوان لقضاء مصالح مادية وغريزية تجعل الإنسان يسقط في مهاوي الرذيلة.. وصدق جبران خليل جبران وهو يقول في هذا المعنى (والحب إن قادت الأجساد موكبه*** إلى فراش من الأغراض ينتحر، كأنه ملك في الأسر معتقل***يأبى الحياة وأعوان له غدروا...). ومن أجمل ما كتب عن الحب كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، الذي أبدع في وصف الحب وظروفه وملابساته وكيف يعيشه الإنسان، لكن وضح ضوابطه وركائزه التي يصبح بدونها مجرد حيوان كل ما يأمله هو تحقيق رغبته المادية أو الغريزية. لقد ضاع الحب كشعور إنساني نبيل في متاهات المادة والمشاكل اليومية للبشر، حتى غدا مجرد حروف جافة يتغنى بها الجميع، ويتحدث حولها الجميع، سواء عبر الموسيقى الكلاسيكية، أو الهيب هوب.. لدرجة سجنه البعض في يوم واحد هو يوم 14 فبراير.. لكن الذين يستوعبون مداه الواسع قليلون جدا... إن الحب قبل أن يكون شعورا إنسانيا، هو مسؤولية اتجاه النفس واتجاه الطرف الآخر.. والذي يستطيع من بني البشر النظر إليه بشمولية وعمق أكبر، سيرى أشياء كثيرة تنفتح عليه من وراء ستائر الغيب.. حيث يتضح أن الحب هو أصل الكون، والتأمل في حياتنا كأفراد وأسر وعوائل، والتأمل في الكون والكواكب والشمس والقمر، يوضح هذه الحقيقة ويؤكدها.. [email protected] * صحافي بشبكة إسلام أولاين.نت