أحاول في هذه السطور التوقف عند دعوات بناء "مغرب الشعوب" و"مغرب النخب"، بعيدا عن حسابات السياسة ومناكفات السياسيين.. لكن كيف يتحقق هذا "الطموح"، إذا كانت الحكومة الجزائرية تسخر كل إمكانياتها لتعميق الهوة بين الشعبين وتوسيع الشروخ، بينما تلتزم النخبة الصمت في أحسن الأحوال إن لم تتماه مع العدوان؟ سؤال يفشل أي "عاقل" في إيجاد جواب شاف له ملخصه: ما الذي تربحه الجزائر من الإصرار على مناكفة المغرب؟ فحتى لو وجهت هذا السؤال إلى أكبر الخبراء الاستراتيجيين، وأعرق مراكز الأبحاث والدراسات، فإن أقصى ما ستخرج به هو كلام خلاصته: احتمال وجود رغبة جزائرية في استنزاف المغرب في مناوشات ديبلوماسية غير مجدية، وسباق تسلح بلا أفق. لكن حتى من هذه الزاوية، فإن الجزائر هي الخاسر الأكبر. ففي المجال الديبلوماسي، المغرب هو من يملك الأرض فعلا، وكل الأموال الجزائرية التي تهدر فقط من أجل شراء تصريح إعلامي هنا، أو خطاب هناك، لن تغير من هذا الواقع شيئا، خاصة بعد التطورات التي عرفتها مواقف كثير من الدول الوازنة، وغرق روسيا في الوحل الأوكراني. أما في مجال سباق التسلح، فالفرق الجوهري يتمثل في أن المغرب، إضافة إلى أنه لا يملك فائضا كبيرا من الأموال لتبذيرها في هذا الباب، فالواضح أنه يؤهل ترسانته العسكرية لمسايرة التطورات التقنية المتسارعة، بينما الجزائر تكدس الأسلحة التقليدية التي أكدت حرب أوكرانيا عدم جدواها. والدليل الماثل للعيان يتمثل في طلعات الطائرات المسيرة التي غيرت المعادلة تماما في محيط الجدار الأمني، حتى وإن لم يصدر بلاغ رسمي ب"إنجازاتها" التي تتداولها عادة مصادر إعلامية "مطلعة"، بينما لا تتحرك الدبابات والمدرعات الجزائرية إلا في مناورات تلفزيونية أو خلال حفلات تخرج أفواج المدارس العسكرية. مبرر هذا الاستهلال، يتمثل في أن المفروض في عقلاء أي بلد، ممن يوصفون بأنهم "النخبة" دورهم هو رفع الصوت -كأضغف الإيمان- لتنبيه صانع القرار، بأن قرع طبول حرب -لن تقع أصلا- وعلى مدار الساعة، هو قمة العبث بمصير شعب ودولة، خاصة وقد سمعنا -أكثر من مرة- دعوات ترتفع هنا وهناك للنخب في البلدين، من أجل التواصل وإعادة مد الجسور بين الشعوب، التي يقال إنه لا علاقة لها بما يجري بين الأنظمة. هذا الكلام، رغم ما فيه من مغالطات إلا أنه مع ذلك لم يجد صدى لدى النخب الجزائرية، التي تلوذ -في أفضل الأحوال- بالصمت حتى حين يكون الصمت تواطؤا ومباركة للمواقف العدائية المجانية. إن الاختباء خلف "القرارات السيادية" عذر أكبر من زلة، لأن جميع الخطوات التصعيدية التي اتخذها النظام الجزائري ضد المغرب لم يُعثر لها حتى الآن على مبرر واحد مقبول، سوى أطنان من الاتهامات الغامضة التي لا دليل عليها أصلا. فكيف يطلب من نخب البلدين فتح كوة في جدار العداء المستحكم، إذا كانت النخبة الجزائرية على دين نظامها، ظالما لا مظلوما؟ بل كيف تقبل هذه النخبة أن تصرف أموال الشعب لمجرد شراء تصريحات صحفية وابتسامات صفراء لنكرات أو مشبوهين أو سماسرة، في "قضية" لا تهم هذا الشعب أصلا، خاصة في وقت تختفي فيه المواد الأساسية من الأسواق؟ بل كيف يمكن تفسير صمت النخب الجزائرية على الحملات الإعلامية اليومية في الفضائيات العمومية وشبه العمومية، إلى درجة أن اسم المغرب لم يعد حاضرا فقط في النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية السياسية أو الاقتصادية بل حتى في البرامج الرياضية والثقافية؟ في الرياضة لا أظن أن هناك رئيس جامعة كرة قدم في العالم يذكر اسمه أكثر من اسم فوزي لقجع، الذي أصبح يتكرر عشرات المرات يوميا في الإعلام الجزائري، مع أنه ليس لا وزير خارجية ولا مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية، بل إن رئيس الاتحاد الفرنسي رغم خطورة تصريحاته والتهم الجنسية الموجهة إليه، غاب اسمه بسرعة حتى في الإعلام المحلي. أما في المجال الثقافي، فالأمر أسوأ، لأنه مجال نشاط "النخبة" التي فضلت دور "المعتزلة"، ليس في إعمال العقل، ولكن في الانعزال عن الواقع. ففي قضية الزليج مثلا، لم نسمع صوتا لأي مكون من مكونات تلك النخبة مع أن "الحق نور أبلج" في هذه النازلة التي بدت أدنى من أن تستحق اهتمام طبقة "الحكماء"، مع أن "السارق" المتلبس بالسرقة "الموصوفة"، فشل في تقديم ولو صورة لورشة بدائية تمارس فيها هذه الحرفة فأحرى تقديم اسم مشروع واحد تم إنجازه في هذا المجال في الداخل والخارج.. إن ما يبرر الخوض في هذه النقطة "الهامشية"، هو أنه تأكد بشكل قطعي أن الأمر لا يتعلق بزلات فردية أو هفوات معزولة، بل بسياسة دولة، تسعى للسطو على المادي واللامادي من "تراث الجار"، وعن سبق إصرار. والمضحك المبكي أن هذه الحملات تمثل ذخيرة حية لبعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي المغاربة، الذين ينجحون بوسائل بدائية في مواجهة قنوات ووكالات أنباء وصحف ومجلات تكلف "شي وشويات" كما يقول المصريون. هل رأيتم؟ بدأنا بمسؤولية النخبة وواجباتها، وانتهينا إلى مشاكل خلط السياسة بالكرة وسرقة التراث.. لأن الأمر في حقيقته لا يتعلق بتنافس بين "دولتين"، ولا بصراع "جيو-استراتيجي"، بل بحالة "جنون" يستعصي "فهمها" حتى على العجوز كيسنجر نفسه. ولهذا كان المأمول في النخب الجزائرية أن تبذل جهدا مضاعفا لإصلاح ما أفسده النظام الجزائري على مدى عقود، خاصة وأنه، عكس الصورة الوردية التي يرسمها البعض، عن تآخي الشعبين، هناك طرف معتد، وآخر معتدى عليه، وهناك دماء سالت على الحدود لأن النظام الجزائري في مراحله المتتالية كان يعتبر العدوان على المغرب من "المقدسات"، والرئيسان الوحيدان اللذان خرجا عن هذا النهج، أحدهما تم الانقلاب عليه ورميه في المنفى، والثاني تم قتله على الهواء مباشرة ليكون عبرة لمن يعتبر. قد يستغرب البعض، توجيه الخطاب إلى النخبة الجزائرية تحديدا دون نظيرتها المغربية. والتفسير بسيط، لأنك لو وضعت جدولا من خانتين وأحصيت في كل خانة عدوان أحد البلدين على الآخر، لما وجدت في خانة المغرب شيئا يدينه، لكن المقام لن يتسع حتما حتى لإحصاء الاعتداءات الجزائرية في الأسبوعين الأولين من العام الجاري وحده. وماذا بعد؟ بدأت بسؤال وأنهي بسؤال، لأن العقل كما عجز عن العثور على "مكسب" واحد تحققه الجزائر من هذا الاستهداف المتواصل للمغرب، فإنه يعجز أيضا عن سؤال: وماذا بعد؟ وإلى أين؟ وحتى متى؟