لسنا رعية ، ولا نرعى الكلأ في الأحراش حتى نحتاج للنظام المخزني أن يرعانا بجلبابه وعصاه . ويصرون أن ينعتونا بالرعية بسبب أو دونما سبب . "" المغاربة الرعايا الأوفياء الذين يطلب منهم النظام السياسي أن يمارسوا مواطنتهم عبر الانتخابات ، ربما يعتقد أنه بتكرار النشيد الوطني في المنظومة التعليمية وبعض الأناشيد التي أصبحت تبدو مثل عجوز هرمة ، أو ربما بكومة الشعارات والكلمات التي تدغدغ المشاعر أحيانا سوف يستطيع أن يغلف الواقع . إنه في حقيقة الأمر ، يمارس منطق الراعي والرعية في كل شيء . والبطائق الوطنية لا تعدو أكثر من أجراس على رقبة القطيع . هل يمكن أن يفسر لي أحدهم كيف للحصول على بعض الشواهد الإدارية يطالبون الشعب المغربي بوثيقة الجنسية المغربية التي تتطلب بدورها وثائق أخرى عديدة حتى تتمكن من الحصول عليها . إنهم لا يعترفون حتى بالبطاقة الوطنية المغربية التي يصدرونها ، فكيف سيعترفون بالمواطن المغربي ؟ إننا في نظرهم قطيع نحتاج إلى راعي ، وتلك شتيمة لا تتجاوز مفهوم العبيد . سيقول البعض متشدقا بأن الراعي تعني المسؤولية والسلطة والرعية ترمز إلى كوننا تحت رعاية وحماية ... ثمة مستويين للخطاب ، وكلاهما يرفض أن نكون رعية : المسألة الأولى بالمفهوم السياسي وهو الأهم ، لا نحتاج إلى راعي ، فنحن لسنا قاصرين أو نعيش في القرون الوسطى ولسنا عبيدا كذلك ، إننا نرعى أنفسنا بأنفسنا . وكل القرارات يجب أن يكون مصدرها الشعب عبر أجهزته المؤسساتية والشرعية ، وبإقراراهم وتمسكهم بأننا رعية وهم الرعاة إساءة كبيرة لنا تضعنا في مرتبة أدنى من العبيد . المسألة الثانية اللغوية التي ربما يتمسكون بها قبل الأولى لتدجيننا عبر اللغة ، فهي القادمة من أعماق الرمال والصحراء ومن تفاعلات لغوية منقرضة . وبما أن اللغة تولد وتموت وتتكيف مع واقعها ، فإن كلمة الرعية كوصف للإنسان لا يجوز بكل المنطق الأخلاقي واللغوي إستعمالها في الحقل السياسي وحتى في اللغة اليومية في الوقت الراهن . لقد إنقرضت منذ زمن لولا إصرارهم على إستعمالها ، وسوف أرد عليهم بنفس الحمولة اللغوية وأقول لهم : أنتم كلاب حقا . هل سيقبلون أن نخاطبهم من نفس علبة مفرداتهم . طبعا لا . فلو قلت لأحد المسؤولين إنك كلب فسيهاجمك ويدبر لك جريمة على مزاجه فقط لأنك مدحته . فالبداوة التي خلقت من الرعية شيئا يمكن إضفاءه كأخلاق إيجابية تعني المعاملة الحسنة والمحافظة ، هي نفسها خلقت وفاء الكلب وجعلته خير راعي وحافظ للرعية . وتحضرني هنا قصيدة مديح لأحد الشعراء الذي وصفه بالكلب التي أشرت إليها سابقا . حين قال علي بن الجهم للخليفة المتوكل مادحا : أنت كالكلب في حفاظك للود / وكالتيس في قراع الخطوب أنت كالدلو لا عدمتك دلواً / من كبار الدلا كثير الذَّنُوب فهل سيقبل الرعاة أن نكيل لهم المدائح الكثيرة بوصفهم كالكلاب والتيوس . إن لم يكن لهم مانع ويقبلون أن نتوجه لهم بيا أيها الكلب ، فليست لدينا حينها مشكلة لغوية أن ينعتونا بالرعية ، رغم أننا لن نقبلها بالمفهوم السياسي الذين يعنونه تماما . إذن ، فأول شروط الانتماء إلى الوطن هي الانتقال من مرحلة الرعية إلى مرحلة المواطنة . وتلك ليست كل البرمة . ولكن شرط أساسي لبداية الحديث عن إمكانية انتماء حقيقي . لماذا يشعر الكثيرون من المغاربة بأن الوطن سجن كبير ، وأنهم ينتظرون اللحظة التي يغادرون فيها هذا المعتقل المرعى . ذلك هو الشعور الحقيقي اتجاه المغرب . إنهم يحسون بأنهم حقا ليوا أكثر من رعية . أما أحسن الحالات فهو الرغبة فقط بالبقاء بالقرب من العائلة والأصدقاء ولا علاقة لذلك بالهوية . وتلك هي الحقيقة ، فكما يقول فرانز فانون الملقب بجيفارا إفريقيا السوداء " الفلاح والعاطل عن العمل والمواطن الأصلي الجائع لا يسعون إلى الحقيقة ولا يدعون أنهم يمتلكونها ، ذلك أنهم هم الحقيقة نفسها " . لا نحتاج لنظريات كي تتكشف لنا أننا لسنا مواطنين ، فأجسادنا المرمية في المستشفيات والسجون والغريقة في البحر هي نظرياتنا . وإحساسنا العميق بالألم والجوع والبرد واللامستقبل هي نظرياتنا ، لا نحتاج لمطالعة كتب التاريخ والسياسة والفلسفة والهرطقة - كما يدعوني البعض - لمعرفة جمالية النظام السياسي ونزاهته وأعماله العظيمة ، فنحن نعيش ما نقول ، ولا نتخيله من وراء مكاتب فخمة وداخل سيارات فارهة . نعرف مدى جمالية النظام مع كل صباح نصحو مشردين ، بلا طعام ، ولا مأوى . نعرف روعته جيدا مع كل قطرة مطر تسقط فوق رؤوسنا لأننا بلا سقف ... يا لروعة النظام الذي تبدد أموال الشعب في الحفلات الباذخة والبروتوكولات والأكسوسوارات بالملايين ، في حين يرزح الشعب تحت وطأة الألم والجوع . إننا ندافع عن المغرب ليس لأننا مواطنون مغاربة ولكن لأننا نريد أن نريد أن نصبح مواطنين مغاربة . وهذا ما يفصلنا عن المتهافتين على العمل السياسي بما هو كائن . إن الاختلاف بيننا في جوهره فلسفي أكثر منه سياسي . هم يتحدثون عن التكتيك والمناوشة رغم استحالتها حتى من داخل منظومتهم ، أما نحن فنرى أن مفاهيم من قبيل الاستقلال والمواطنة والعنصرية ومرجعيات النظام ... تختلف جذريا عن ما يعملون على التسويق له . إن هؤلاء المخدوعين ينطلقون باعتبارهم مواطنين مغاربة ، في حين أنهم يعيشون في منظومة لا تختلف في جوهرها عن الأبرتايد أو أكثر سوءا . ربما يعتقد البعض أن تسمية الأشياء بمسمياتها هو شيء سلبي وبلا جدوى . يورد أبيقور في أحد كتاباته أننا بحاجة لا أن نظهر بصحة جيدة بل أن تكون صحتنا جيدة حقا . حتى يتمكن الجسد المغربي من التماثل للشفاء ، من المفروض أن يكون العلاج يناسب المرض ، فمحاولة تخفيض درجة حمى المريض بدون معرفة المرض الذي أنتج الحمى يبدو عبثيا . كما أنه عدم إخبار الطبيب المريض بمرضه لا أظنه في كل أدبيات العالم سوف يفيد المريض في شيء بتاتا . إن مفهوم الوطن أيضا في المغرب تعرض لضربات مطرقة حادة ، فالاستقلال الذي يقول البعض أنه كان في تلك الفترة بالذات لا لشيء سوى لقطع الطريق على نخبة جديدة كانت تولد نواتها في كاريان سونطرال والأحياء المهمشة ، ولكي لا تكون تلك النخبة التي بدأت تجد صداها داخل الطبقة الشعبية بديلا أو مزاحما ل " نخبة فاس " والأعيان . لكي لا يصل هؤلاء الرعايا إلى السلطة أو الحرية . ذلك الإستقلال لم يتوانى أيضا في توجيه الضربات بكل قوة في كل الإتجاهات ضد الشعب والوطن ، فالراعي يمتلك كل الحرية اتجاه رعيته ، إذ يقرر من سيسمن ومن سيذبح ، وهو من يفرق الأعلاف . ومن ذلك الوقت والمطرقة تشتغل ، بل تتحول أحيانا إلى فؤوس أنانية متوحشة وسادية . أما الوطنية فشيء لاحق . إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن وطنية دونما وجود لوطن أو مواطنين . ومهما حاولوا أن يوهموا الشعب وأنفسهم بأننا بالإمكان خلق مواطنين قطيع ، فمن المستحيل حصول ذلك . إذ في آخر المطاف سوف تكون أمام مواطنين أو أمام قطيع . إن هندسة النظام وطبيعته تتعارض كليا مع مفهوم المواطنة ، ولذلك مهما قاموا بعمليات تجميلية وماكياج زائد فإنهم لا يفعلون في الحقيقة إلا زيادة الأمر سوءا . هل حملات الإشهار وحفلات من طينة 12 قرنا على المملكة المغربية كافية لأن تجعلنا نشعر بفخر للإنتماء إلى هذا المرعى ؟ ربما توصل بعض علماء النفس المرضي أن العبيد يتفاخرون بانتماءهم إلى ملكية – بكسر الميم – شخص ما . " لا أعلم بتلك النظريات " . لكن ، أكيد أن الإنسان لم يخلق لكي يكون عبدا . فكما يقول توماس جيفيرسون مؤلف إعلان 1976 حول مسالة حقوق الإنسان " جموع الجنس البشري لم تولد بسروج على ظهورها . ولم يعط لقلة ترتدي أحذية طويلة ومهاميز الحق في أن تمتطيهم بشكل مشروع لأن الله فضلهم " . فالإمتيازات التي يوزعها النظام المغربي على أذياله ، واللاعدالة الفاضحة التي تسود بين الطبقة الثالثة من جهة والمحظوظين من جهة أخرى والعراقيل التي توضع أمام الشعب ليظل تحت الأحذية دائما ، يتجعل من إمكانية المواطنة كائنا خرافيا . أما عندما أطالع بعض اللوثريين الجدد الذين يحاولون القول : الأمير ممثل الإله ، والناس العاديون هم الشيطان . فالحال لا يدعو للنقاش ، بل للضحك . نعم ، إنهم يريدوننا مواطنين على شاكلتهم . فالفرق بيننا وبين العبيد بالنسبة لهم ، هو أننا ندفع مصاريف الكراء كل شهر ، ونؤدي الضرائب للدولة ، وندفع فواتير التلفزيون الذي لا ننظر إليه ، ونشتغل ليل نهار لنختار بين أن نأكل البطاطس أو الجزر ... وهم أيضا ليسوا مجبرين على حمل سوط في أيديهم ليعلمونا واجباتنا في كل دقيقة كما يفعل الأسياد مع عبيدهم ، فثمة مؤسسات تقوم بذلك بالنيابة عنهم غير موجودة في النظام العبودي المباشر . نعم ، إنهم يريدوننا على شاكلتهم ، إنهم لا يروننا عبيدا لأنهم متيقنون أننا رعية . وها نحن نصرخ : لسنا رعية ، لسنا بقرنين وذيل أيها الأوفياء حقا ... [email protected]