هاجر يونس من قطاع غزة مع 10 آخرين من أقاربه وأصدقائه أملا بحياة أفضل في أوروبا؛ لكنه توفي غرقا بعد عشرة أشهر، ليعود جثة هامدة إلى القطاع الفقير والمحاصر. في منتصف دجنبر، وصلت إلى غزة، عبر معبر رفح الحدودي، جثث يونس الشاعر (21 عاما) وسبعة شبان من عائلتي الشاعر وقشطة، بينما بقي ثلاثة غيرهم في عداد المفقودين. وقبل شهرين، عثر على جثمان يونس الشاعر قرب شواطئ تونس، بعد غرق قارب مطاطي صغير حمله و13 آخرين من ليبيا إلى إيطاليا قاصدين بلجيكا. في فبراير الماضي وبعد أن أنهى عامين دراسيين في المحاسبة في جامعة محلية في غزة، غادرها الشاعر نحو مصر التي مكث فيها لشهرين مع أقارب له قبل أن ينتقلوا من خلال مهربين إلى ليبيا حيث أمضوا سبعة أشهر بانتظار فرصة سانحة لإكمال رحلتهم. وفي ليبيا، تعرض الشاعر وأقاربه لسرقة أموالهم ومتعلقاتهم الشخصية وهواتفهم النقالة، واضطروا إلى المبيت لأسابيع في أماكن "لا تصلح للحيوانات"، حسب شقيقه محمد. يوضح محمد (34 عاما) أن "مجموعة مافيا على صلة بالمهربين اختطفت شقيقي يونس في ليبيا لأسبوعين، وقمنا بدفع فدية قدرها 1500 دولار". ويضيف الشاب، وهو مبتور القدمين جراء قصف إسرائيلي قبل خمس سنوات: "أخذ المهربون 6 آلاف دولار من يونس وكل شخص معه، المهربون خدعوهم ولم يجدوا باخرة ولا مأوى ولا طعاما ولا شرابا، الرحلة كانت قاسية ومهينة، كلها عذاب وإذلال". توفي، خلال العقد الأخير، عشرات الفلسطينيين في حوادث غرق مماثلة أثناء محاولات الهجرة بطرق غير شرعية إلى أوروبا وتركيا، وبعضهم غادر غزة عبر أنفاق تحت الأرض كانت تنتشر قبل سنوات عديدة على حدود قطاع غزة مع مصر قبل أن يهدمها أو يغلقها الجيش المصري. محرك للهجرة رغم عدم وجود إحصائية رسمية لعدد المهاجرين من القطاع فإن "أكثر من مائتي ألف شخص غالبيتهم شباب هاجروا بشكل دائم أو مؤقت من القطاع منذ 2007" عندما سيطرت حركة حماس على الحكم في غزة؛ ما دفع كثيرين إلى البحث عن فرص عمل وحياة أفضل في الخارج. وحسب مركز "مسارات" لحقوق الإنسان، غادر، في السنوات الخمس الماضية، حوالي 36 ألف شخص من غزة في مسعى إلى الهجرة إلى الخارج. في عام 2015، عبر مليون شخص البحر الأبيض المتوسط بحثا عن ملاذ في أوروبا قبل أن يتراجع هذا العدد إلى نحو 95 ألفا في عام 2020، ثم بدأ في الارتفاع مرة أخرى، وفق بيانات مفوضية الأممالمتحدة السامية لشؤون اللاجئين. وتعتبر "البطالة والفقر محركين أساسيين لهجرة الشباب من قطاع غزة"، على ما يقول سمير زقوت، نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان. ويوضح زقوت لفرانس برس أن "80 في المائة من الشباب خريجي الجامعات في القطاع بلا عمل"؛ وذلك في ظل نسبة بطالة عامة تزيد عن 50 في المائة. ويقيم في قطاع غزة نحو 2,3 ملايين نسمة، نحو ثلثيهم من الفقراء، وبينهم 223 ألف عاطل عن العمل، وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للربع الثاني من عام 2022. وتفرض إسرائيل حصارا بريا وبحريا وجويا مشددا على قطاع غزة، منذ 2007. "زلزال" بلغت تكلفة رحلة يونس، التي ساهمت العائلة في جزء منها، تسعة آلاف دولار تقريبا، ستة منها دفعت للمهربين. فبعد شهور من "العذاب والقلق"، كان موت يونس "زلزالا" بالنسبة لوالدته سميرة الشاعر. وتؤكد الأم الثكلى: "كنت أعرف مخاطر الهجرة، أنا استسلمت من كثرة إلحاحه وإصراره، في كل يوم كنت أتوقع أن يأتيني خبر وفاته". في منزلها المتواضع في رفح، جلست سميرة محاطة بأقاربها، إذ بدا عليها الحزن الشديد وهي تحتضن صورة ابنها. ولطالما كان أمل والدته أن تتكلل رحلته "القاسية" بوصوله إلى بلجيكا ليعيش "حياة أفضل". وتوضح: "كان يقول لي: هنا، في غزة، لا عمل ولا زواج ولا بيت.. هل يعجبك حال البلد؟ أريد أن أهاجر لأساعدك أنت وأخواتي في حياة أفضل". وتقول: "كنت أتمنى لو أنه مسجون، كان يقول لي دائما لا تقلقي إن شاء الله سنصل" إلى أوروبا. وتبدو الأم مقتنعة بأن "قلة العمل هنا (في غزة) والفقر دفعا يونس إلى الهجرة وهو يتيم الأب مذ كان عمره عشر سنوات". لكن يونس كان دائما ما يطمئن والدته، ويشير إلى أن أقاربه "من غزة وصلوا بلجيكا قبله وعملوا هناك". وبعد 20 يوما من فقدان الاتصال مع يونس، تواصلت العائلة مع المهربين عبر "فيسبوك". ويقول محمد: "كانوا يقولون لنا إنه بخير، إنه مسجون، كانوا يكذبون علينا". ولا يخفي محمد الشاعر أنه "ضد هجرة الشباب" من غزة. أما والدته سميرة فبدت مقتنعة بأن "لا خيار أمام الشباب في غزة سوى اللجوء إلى المخدرات أو الهجرة عبر البحر". يقول محمد متنهدا: "وجدوا جواز سفره بين الجثث التي جرفتها مياه البحر نحو الشاطئ، وقد لف بالنايلون". ويشير محمد: "كان يحلم بتكوين نفسه، بأن يتزوج ويمتلك بيتا ويجد فرصة عمل، لم تكن الجنسية الأوروبية هي همه الوحيد، ضاع حلم يونس".