كرة القدم لعبة من لعب متنوعة متعددة تمارسها شعوب الأرض ودُوَلُها، هي حلقة في سلسلة حضارات البلدان متقدمةً كانت أم متخلفة أم نامية. ولا تَثِقَن بمن يَركب أمواج هذه اللعبة لينفث سموم فكره المتعنّت ليصفها بأنها مخدِّر يُلهي عن مهمّات الأمور والمشاكل لدى الشعوب؛ فمكوّنات الحضارة بمختلِف مجالاتها وتخصّصاتها تتكامل فيما بينها حتما؛ إذ من الحماقة بمكان أن نوقف جميع شرايين الحياة إن حلّت مصيبة أو ظهرت مشكلة في حياتنا تسبّبت فيها السماء أم البشر، فلكل مقام مقال ولكل حَدَث ما يناسبه من رد فعله التصحيحي المقوِّم. فلا نخلط الأوراق خلطا ولا نخبط خبط عشواء. واللعبُ في أدنى مستواه ترويحٌ عن النفس من عناء الكد وتعب العيش، وفي أعلى مستواه وقاية من متعدِّد الأمراض ورمز من رموز إثبات الذات، مجدِّد للطاقات ومحفِّز للهمم، ولم يأت اعتباطا أن اللعب مما يسوّي شخصية الطفل. ولمّا تصير اللعبة رسمية ترعاها الدول وتسهر عليها، تُسهِم في تقريب الهوة بين الشعوب تعارفا وتواصلا، وتبادل ثقافاتٍ وتقاليدَ وحضاراتٍ، وتفعيلا للدبلوماسية الموازية، واستثمارا وإنقاذا للأفراد والجماعات من شبح الفقر ضمانا لمورد مادي مشرِّف. فبحسب الهدف الذي يحققه اللعب يتحدد حُكمُه من الوجوب وغيره، ولا أدلَّ على هذا من مختلف أصناف اللعب/التداريب التي تؤهل الجندي للدفاع عن البلاد والعباد. ولا أدلّ على مكانة لعبة كرة القدم الحضارية أيضا من توظيفها سياسيا في أعلى وأعمق مستويات السياسة الدولية. لقد أدرك منتخبنا المغربي بمونديال قطر 2022 ما لم يتوقعه كبار المنظرين والمحترفين .. كل العالم توقَّع خروج فُرُق العرب والأفارقة والمسلمين من الأطوار الأولى كعادتهم.. لكن ما فاجأنا به فريقنا الوطني -بقيادة البطل وليد الركراكي ودعم جماهيرنا المغربية الصامدة وباقي جماهير الدول الشقيقة- أعلى رؤوسَ الجميع؛ مما جعلنا كلَّنا نطمع في فوزه بكأس العالم؛ خصوصا وأن ما ظهر للعالم من مؤهلات مغربية فاقت التوقّعات القَبْلية.. فطبيعة تجاربنا الماضية تقضي منطقيا بانسحابنا في الربع، لكن ما أدركه فريقنا المغربي مما هو متفوّق على طبيعة تجاربه الماضية ينال منا كل تحية وتقدير؛ إذ خروجُه/إخراجُه من المنافسات في نصف النهائي مُشرّفٌ باتفاق الجميع، مع ما عرفه العالم بأدلة الفديوات المرئية بوضوح تام من ظلم الحَكَم المكسيكي سيزار راموس على الأقل بإعطاء أحد لاعبينا إنذارا جائرا، وهضمه لحق فريقنا الوطني على الأقل بحرمانه من ضَربَتَيْ جزاء، والحَكَم ينظر بأمّ عينيه وهو قريب جدا من عملية إسقاط لاعبينا المتعمَّد داخل منطقة جزاء الفريق الخصم.. لقد ربحنا فريقا بمدرب من طينة العظام رَدُّوا الاعتبار عالميا لكل عربي وإفريقي ومسلم.. وكما أن هذه مرحلة متطورة عن التي سبقتها، فهي حتما ستدفعنا وتدفع الجميع لإعادة ترتيب الأوراق والجهود والاصطلاح مع الذات؛ وما ذلك على الله بعزيز.. أضف إلى كل هذا ما لاحظه العالم اليوم من مبادئ القيم التي يتحلى بها أفراد منتخبنا المغربي لاعبين ومسيّرين، مما يخص تربيتنا وتكتلنا وعوامل نجاحنا وتوفيقنا، وبهذا يعتبر مدرب الأسود وليد الركراكي دينامية العمل الجماعي المنسجم، ولا نستطيع إخفاء قِيَمِنا؛ لأنها جزء من سلوكنا، بل هي الدافع الحقيقي لكل ما حقّقناه ونحقّقه في أرض الواقع، وهذا لا نفرضه على غيرنا بطبيعة الحال والمقام. جميلٌ كلُّ ما فاجأنا به فريقنا الكروي بمدربه البطل من رسائل تنبّه على قيم الثقة بالنفس/النية المنبثقة من اليقين والثقة بالله للاستماتة في تضحياتهم وقتالهم تجاه واجبهم الوطني، وقيم طاعة الوالدين، وتواصلهم الاجتماعي الوطني والعالمي وغيرها، مما يحقق اطمئنانا داخليا وهدوءا نفسيا وتركيزا عاليا، لدرجة تجاوز كثير من اللاعبين إصاباتهم الجسدية وتكملة تضحياتهم لرفع علم مملكتنا المغربية من زاوية تخصصهم. هذا إضافة إلى رسائل اعتماد المغاربة على جهودهم وإبداعهم ومهاراتهم وقدراتهم ليرتقوا مقامات المروءة والشهامة والبناء الحضاري، مفندين وَهْمَ إنْ لم نتتلمذ على غيرنا لن تقوم لنا قائمة.. فكم من مدرب أجنبي ربح ما ربح وفريقُنا قابع في مراحل المونديال الأولى فقط عبر كل السنين التي مضت.. ألا يكفينا فخرا أن جهودنا الذاتية المحلية هي بأقدام مغاربة أفذاذ، تخصَّصَت أكاديمية محمد السادس لكرة القدم الغراء في صقلهم وتجويد أدائهم! وفّق الله فريقنا لِلَفتِ أنظار باقي مؤسسات مملكتنا المغربية -بل مؤسسات العرب وإفريقيا والعالم الإسلامي- لمزيد تألق وإبداع وتقدم.. لا يختلف اثنان في أن ما حققته إنجازات فريقنا المغربي -في مونديال 2022 بقطر الشقيقة- من توحيد الأنظار وإمالة العواطف الصادقة من المتصارعين والمتنافرين والمتمذهبين ووو، يعتبر نقطة البداية في مراجعة الذات والرؤى والمواقف التي تتطلب وقتا لا يستهان به؛ إذ البناء أشد وأشق من الهدم.. ولو لم يكن لهذه الإنجازات العظيمة من فضل غير التّسبّب في مزيد احترام المنتظم الدولي/الفيفا للكرة الإفريقية لَكفى أسودَ أطلسنا فخرا وجلالا؛ خصوصا وأن تطوير مشاركات دول العالم في مونديال 2026 هو الشاغلُ بالَ الفيفا اليوم، فلعلّ إحراز قارّتنا إفريقيا لأربعة مقاعد في المونديالٍ مضافة إلى الخمسة، مما يُسهِم فيه تطوّرُ أدائنا الكروي عالميا.. أما ما هو أعمق فقد كشف إنجاز أسود الأطلس المغربية هشاشة بنية قانون كرة القدم الممثّلة في إعطاء كامل السلطة والصلاحية للحَكَم حالة معارضة لاعبين لقراره في أن يَقبَل التّحاكم إلى الفار/Var أو يتّخذ قراره دون الرجوع لهذا الفار، أو بمجرّد إخبار حَكَم الفار له عن بُعد، دون التأكد هو بنفسه منه، في مسألة حسّاسة مصيرية مثل الأخطاء المؤدية لضربة الجزاء وما شابهها، وقد سمعتُ -عبر وسائل التواصل الاجتماعي- تحليل رئيس الفيفا Giovanni Vincenzo Infantino لهذه القضية بأنهم أجروا دراسة على 455 حالة رجع الحَكَم إلى الفار/Var في عشرين حالة منها فقط، وكان النجاح حليفه بنسبة 99,3%؛ وعليه فستبقى بعض الأخطاء التي تهضم حق فريق ما، ورئيس الفيفا يفضّل رؤية خطإ واحد للحَكَم في عشرين مقابلة عوض خطإ واحد في ثلاث مباريات... وعليه أليس هذا استهتارا بحقوق اللاعبين بتحليلات وتعليلات واهية جدا! ألا يجعلنا هذا التحليل السطحي نشكّ في قدرات رئيس الفيفا الإدارية وفي من يسيّر حقيقة؟ أليس التّثبّت في أقل من دقيقة -كما ورد على لسان رئيس الفيفا- يعطي لكل ذي حق حقه! عوض ترك أمور مصيرية يتلاعب بها الحكّام بإيعاز من أصحاب النفوذ/المصالح، خصوصا وأن علاقات بعض المؤسسات العالمية كثيرا ما انفضح فيها أمر الزبونية والمحسوبية والبيع والشراء وهلم تلاعبا بحقوق الناس! كل هذا يطرح أكثر من سؤال يتعلق بإغماض العين عن الظلم الواضح الممارَس من طرف بعض لاعبي الفريق الفرنسي، وظلم الحكَم المتعمَّد لأكثر من مرة، وفرح ومباركة رئيس الفيفا والرئيس مَكْرُنْ الذي حضر نصف النهاية عوض حضوره مباراة النهاية كما هي عادة الرؤساء!؟ كما فضح إنجاز أسود الأطلس المغربية بعض الإعلام الغربي العنصري الحقود من خلال نعته بعض أسود الأطلس بالداعشية لمّا رفعوا أصبعا واحدا معبّرين عن فرحهم بإنجازهم العالمي الأسطوري؛ يطرح هذا عدة شكوك في منطلق هذا الإعلام المغرض وخلفيته الحقيقية: لماذا لم يَصِف هذا المكرُ الإعلاميّ كثيرا من لاعبي كرة القدم العالميين بالداعشية وهم يفرحون رافعين أصبعا واحدا فقط وهُم من إخوتنا المسيحيين وليسوا مسلمين !؟ ألا يعبّر هذا التوافق والاشتراك برفع الأصبع على أن أصل الديانات دين واحد موحِّد؛ مما يسهّل عملية التواصل العالمي الحضاري البناء؟ وهل رفع الأصبع رمزا للفرح من إبداع المتطرفين الداعشيين؟ أم أن هؤلاء صنيعة الاستعمار العالمي لتشتيت البلاد والعباد الحديثي عهد بالتنشئة سبقهم سكان المعمورة من مختلِف الديانات إلى شعار رفع الأصبع بقرون متعددة؟ وهل إذا قرأ مثلا غير الداعشيين القرآن -حاكما كان أم محكوما- هل نَصِفُهُ بالداعشية بدعوى ان الداعشيين يقرءون القرآن؟ ما هذا العته!!! ولعل ما راج في بعض الكواليس من تهييء أرضية التحكم في فوز المنتخب الفرنسي رغما عن الجميع هو ما تسرّب من تحييد دولة قطر من مشهد مباراة نصف النهاية المغربية الفرنسية بإقالة نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي إيفا كايلي اليونانية -يوم الثلاثاء قبل المباراة بيوم واحد فقط- لاشتباه علاقتها بفضيحة فساد مالي، وقد أوردت الخبر مختلف المنابر الإعلامية الدولية، يعتبر هذا من دواعي ظلم منتخب الأسود. وأخيرا وليس آخرا فإن تدافع البشر على وجه الأرض وتنازعهم وتصارعهم يَظهَر بين الفينة والأخرى في مختلِف أشكال التواصل والتنظيمات وعلى رأسها الآن لعبة كرة القدم الحضارية، ويُظهِر أن الدول الضعيفة اقتصاديا وسياسيا تبقى كذلك على هامش المتغطرس المتحكِّم في العلاقات والسياسات ومنها كرة القدم وخيوطها المؤهِّلة للاستفراد بالتّحكّم في نتائجها. ولا تَثِقَنْ بمن يهنّئ منتخبنا المغربي على أدائه الأسطوري وهو مَن يهنّئ علنا ويحفر خلسة. كما ينبغي التريث كثيرا قبل أن نثق بما راج مؤخرا من عدم عِلْمِ حَكَم المباراة المكسيكي بأحقية أسود الأطلس لضَربَتَيْ جزاء، راجعا باللائمة على حكام الفار/Var فهُم مَن ضلّلوه، ثم يكفي لمنتخبنا الوطني الاحتجاج جماعيا حتى يعاد إجراء المباراة من جديد؛ إذ أنّى لمتمرّس في التحكيم وتموضعه قريبا جدا من اللاعبين ألّا يعلم بحقيقة الخطإ!. وإجمالا: هل مَن سرقوا تذاكر المغاربة من بني جلدتنا ليتاجروا بها هم من وَعَوْا درس ظلم المتكالبين عالميا على المنتخب المغربي باعتبار أن هؤلاء المتكالبين متاجرون دوليون بامتياز؛ فَنَحَوْا نَحوَهم وساروا على طريقهم؟. ألا يمكن تقنين عقوبة تُلزِم سارقَ المال العام على الأقل بأداء نفس ما سرقه من جيبه الخاص ليعود إلى صناديق الاستثمار لصالح هذا الشعب المتاجَر به وبقضاياه؟ ألا يعطي هؤلاء الجشعون من بني جلدتنا -خريجي تأطير أحزاب سياسية- الدليل الدامغ على فقدان الثقة في كل مَن وما هو سياسيّ لدرجة مطالبة كثير من أفراد الشعب المغربي بحل التنظيمات السياسية التي لو قمنا ببحث موضوعي في فسادها المالي عبر السنين لَوَلّى الجميع منها فرارا ولَمُلِّئَ منها رُعبا؟ ثم بعدما تضافرت جهود المخلصين الموضوعيين في العالم برمته -كلٌّ بطريقته وتخصّصه- على إدانة جميع من أسهم في هضم حق منتخبنا وإخراجه ظلما من منافسات كأس عالم قطر، من أسهم سرّا ومن أسهم علنا، متى يُدانون رسميا وبقانون عادل ديمقراطي منصف.....؟ عذرا عزيزنا المحترم وليد الركراكي، ما بقي لنا من نيّة "نْعَمْلوها" مع هؤلاء القوم شياطين الداخل والخارج. وشكرا لك مع أسود الأطلس الأشاوس مَن كشفتم كلَّ هذا لِنُفيق ونستعدّ ونعاود الكرّة بهذا الوعي الحضاري المطلوب، وأملُنا بعد الله في خالص جهودكم وصادق نيّاتكم.