زيارة المغرب والمشاركة بدرس من الدروس الحسنية (مذكرات القرضاوي) في شهر رمضان سنة 1403ه الموافق 1983م، دعيت من قِبل وزير الأوقاف المغربي الدكتور عبد الكبير العلوي عن طريق سفير المملكة المغربية بالدوحة، للمشاركة في الدروس الحسنية الشهيرة، التي اعتاد ملك المغرب الحسن الثاني أن يقيمها كل رمضان، ويدعو إليها عددا من العلماء من خارج المغرب، بالإضافة إلى علماء المغرب. زيارة سابقة سنة 1978م ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي أدعى إليها لهذه الدروس، فقد دعيت إليها من قبل عدة مرات، ولكني كنت أعتذر عن عدم تلبية الدعوة بأعذار شتى، فقد حذرني كثيرون: أن هذه الدروس تلزم العلماء بطقوس معينة لا تتفق مع طبيعتي، مثل الانحناء، والمبالغة في الثناء والتعظيم للملك الذي يدعونه عادة بأمير المؤمنين. وقلت: أنا في غنى أن أكلف نفسي ما لا تحبه ولا تحتمله، فالاعتذار أسلم طريق. ولكن سفراء المملكة في قطر الذين خالطوني وعرفوني ظلوا يلحون علي أن أستجيب، وقالوا لي: إن أحدا لا يلزمك بشيء من هذه الطقوس، وكل عالم حر في تصرفه، وأخيرا استجبت للدعوة في رمضان الموافق 1978م، وسافرت إلى المغرب فعلا، للمشاركة في هذه الدروس، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى: أن يدخل الملك المستشفى لإجراء عملية جراحية، فلم تعقد هذه الدروس في ذلك الموسم. ومن هنا رتبوا لنا زيارة بعض المدن المغربية، وإلقاء بعض الدروس والمحاضرات في بعض المدن، منها مدينة الرباط نفسها، ومنها الدارالبيضاء، ومنها مدينة فاس، التي زرت فيها جامع القرويين الشهير، وألقيت محاضرة في جامعة محمد بن عبدالله، قدمني فيها صديقنا العالم الداعية الثبت المعروف: الدكتور عبد السلام الهراس. كما زرت مدينة تازة، وألقيت فيها محاضرة في ذكرى غزوة بدر. كما شاركت في ندوة عقدها التلفزيون المغربي حول (غزوة بدر) والدروس المستفادة منها، وكان معي فيها مؤرخ الفتوحات الإسلامية اللواء الركن محمود شيت خطاب، المعروف بمؤلفاته ودراساته في السيرة والتاريخ، والأخ العالم المعروف الدكتور عبد السلام الهراس. ومن اللطائف: أن الأخ المذيع الذي كان يدير الندوة، ارتبك عند تقديمنا، فقال: يشترك في هذه الندوة: اللواء الركن يوسف القرضاوي وفضيلة الدكتور محمود شيت خطاب! وضحكنا من ذلك، وألغيت هذه المقدمة. وقد علق عليها اللواء شيت خطاب قائلا: إنه ليشرفني أن يطلق علي الشيخ محمود خطاب، لا فضيلة الدكتور، فلقب (شيخ) عندي أفضل من دكتور، ومن لواء، ومن أي لقب دنيوي يحرص عليه الناس. وأحب أن يخاطب الشيخ القرضاوي بلفظ الشيخ لا بلفظ الدكتور. وانتهى تسجيل الحلقة على ما يرام. وبعد ذلك عدت إلى قطر، عن طريق باريس، بعد أن تعرفت على المغرب في أول زيارة لي إليه. وتعرفت على الأخ الكريم الداعية: عبد الإله بن كيران، الذي صحبني إلى الأسواق، لأشتري بعض الملبوسات المغربية للأولاد. وقلت في نفسي: الخير ما اختاره الله لي، فقد كنت متخوفا من هذه الدروس وما قد يكون فيها من إحراجات لا تناسبني. وكل شيء مرهون بوقته على ما قدر الله سبحانه. هذا ما كان في زيارة سنة 1978م. أما هذه المرة، فقد كانت سنة 1983م، وفي شهر رمضان 1403ه. وقد سافرت من قطر على طائرة الخليج التي أقلّتني من الدوحة إلى باريس، والتي تقوم عادة من الدوحة بعد منتصف الليل، وتصل إلى باريس في الصباح. ثم آخذ الطائرة المغربية بعدها من مطار (أورلي) على مسافة غير قليلة من مطار (شارل ديغول)، وقد رتب الإخوة من ينقلني ويصحبني. إفطار في السفر وأنا عادة إذا سافرت في رمضان إلى القاهرة أو السعودية أو نحوهما، لا أفطر، وأظل صائما، لا لأن الفطر ممنوع أو مكروه، ولكن المسافر أمير نفسه، إن شاء أفطر، وعليه عدة من أيام أخر، بعدد الأيام التي أفطرها، وإن شاء صام ولا حرج عليه. خلافا للظاهرية الذين أوجبوا على المسافر في رمضان أن يفطر. وهو مروي عن أبي هريرة. وفي السفر إلى هذه البلاد العربية، لا أجد مشقة تدعوني إلى الفطر. والذي دعاني إلى الأخذ برخصة الفطر في هذه المرة: أني وجدت أني لن أصل إلى الرباط إلا الساعة الثانية عشرة بتوقيت قطر، وكان الوقت صيفا، مع التنقل من مطار إلى آخر، فرأيت أن الفطر أحب إلي، وطالما ذكرت للناس الحديث النبوي: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته". وفعلا عندما وصلت إلى مدينة الرباط، ونزلت الفندق – فندق حسان – وهو الذي نزلت فيه المرة الماضية، كنا في منتصف الليل تماما، بتوقيت قطر، إذ الفرق بين قطر والمغرب ثلاث ساعات. وبقيت أياما أنتظر دوري في إلقاء درسي، وقد عزمنا بعض وجهاء الرباط على الإفطار، على الطريقة المغربية، حيث نتناول شُربة (الحريرة) ثم نصلي المغرب: فريضته وسنته، ثم نعود لاستكمال الإفطار. مشادة مع د. علي عبد الواحد وافي ومما أذكره: أني وقعت في مشادة مع أستاذنا الدكتور علي عبد الواحد وافي رحمه الله، الذي عرفته منذ أن كنت في وزارة الأوقاف بالقاهرة، وكنت أشرف على معهد تثقيف الأئمة، وكان هو أحد المحاضرين المرموقين فيه، وكان بيني وبينه مودة، ثم انقطعت الصلة المادية بيني وبينه، بسبب سفري إلى قطر، إلى أن التقينا في الرباط. كان سبب المشادة، هو استخدام اليد اليمنى في الأكل والشرب، وهل هي سنة تتبع أو عادة يفعلها مَن شاء ويتركها مَن شاء؟ وكان رأي الدكتور علي رحمه الله: أن الأكل باليمين والشرب باليمين ليس أكثر من عادة، مثل الأكل باليد أو بالملعقة والشوكة، والأكل على الأرض أو على المائدة. وهنا قلت له بكل أدب: اسمح لي يا فضيلة الأستاذ أن أخالفك في بعض ما قلت، وأوافقك في بعضه. فأما الذي أوافقك فيه: فهو الأكل باليد أو بالملعقة، والأكل على الأرض أو على المائدة (الطاولة)، فهذه من الأفعال التي ليس فيها أمر ولا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا بخلاف ما جاء في شأن الأكل باليمين والشرب باليمين، فقد جاءت فيهما أحاديث صحيحة صريحة، مثل حديث: "لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" فجعل الأكل بالشمال من عمل الشيطان، وهو يؤذن بحرمة هذا العمل. ولو كان الوارد هنا مجرد الأمر كقوله: "سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، لقلنا: الأمر هنا يفيد الاستحباب، ولكن النهي في الحديث المقترن بالتشبيه بالشيطان، دلَّ على شيء آخر. ثم قلت: إن الإسلام يريد بمثل هذا الأدب: أن يغرس في الأمة عادات مشتركة تميزها بين الأمم، فإذا كان الأوربيون يأكلون بالشمال، فإن الأمريكيين يأكلون باليمين. وهنا قال الدكتور وافي: الأمريكيون لا يأكلون باليمين، بل بالشمال. قلت: يا سيادة الأستاذ، أنا كنت في أمريكا من قريب، وقد زرتها أكثر من مرة، ورأيتهم يأكلون باليمين. قال: أنا أعلم بالغربيين منك. قلت: هذا صحيح ومُسلَّم، ولا أدعي أني أعلم منك في هذا، ولكن سيادتك عشت في فرنسا، ولم تعش في أمريكا، وحاول بعض الحاضرين أن يفض اشتباكنا. وكنت حريصا على ألا أستمر في هذا الجدل، بل أسفت له، ولكني سمعت خطأ، فلم يسعني إلا أن أصوِّبه، وليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم. برغم أني أعترف أن الدكتور وافي كان من العلماء الموسوعيين، الذي جمع بين الثقافة الشرعية العربية، التي استقاها من الأزهر، والثقافة الغربية، التي استقاها من فرنسا، فكان من كبار أساتذة علم الاجتماع، وأساتذة علم التربية، وأساتذة علم اللغة، وأساتذة الدراسات الإسلامية. ومع ذلك، فلكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، وهذا لا يسقط اعتباره، ولا ينزل من قيمته. وكان علماء المغرب أحفياء بي، وقد أحاطوني بتقديرهم وعنايتهم وترحيبهم، طوال الأيام التي أقمتها في الفندق، منتظرا ليلة درسي، حتى أعلموني بالموعد المرسوم. درسي كان عن حديث تجديد الدين وكانت الدروس عادة تنطلق من آية كريمة، أو من حديث شريف، وقد سألوني عن منطلق الدرس، وهل هو مكتوب أو مرتجل، فأخبرتهم أنه مرتجل، وأنه ينطلق من الحديث النبوي الذي رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة: مَن يجدد لها دينها". والذي رجَّح اختياري لهذا الحديث: أننا في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، فلم يمض منه إلا سنتان وبعض الثالثة. وفي الليلة المعهودة، ذهبت إلى قصر الملك، وحييته وسلمت عليه من وقوف، ولم أضطر إلى أن أنحني، أو أخرج عن طبيعيتي قيد أنملة، كما قد قيل لي من قبل. بل كان الرجل ودودا بشوشا مُرحبا بي أكثر من غيري، ممن ألقوا دروسا قبلي. وقد استمعت إلى بعضهم، فوجدت منهم مَن يسرف في الثناء والإطراء نثرا وشعرا، ولكن لم يلزمهم أحد بذلك، وإنما هم الذين التزموا به طوعا. جلست كما جلس الجميع – ومنهم الملك نفسه- على الأرض، وقد حضر ولي العهد – وهو الآن الملك محمد السادس- وحضر الوزير الأول والوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وسفراء الدول الإسلامية، وكبار العلماء ووجهاء البلد. وكان سفير قطر في ذلك الوقت هو عميد السلك الدبلوماسي، لعراقته في وظيفته هناك، وهو الأستاذ عبد الله الجيدة حفظه الله. وابتدأت درسي بقولي: مولانا الملك المُعظم ... ثم استرسلت في درسي. وجدت الخطاب بهذا الوصف هو أكثر ما يكون ملاءمة لموقفي، وهو تعبير صادق عن الواقع، وليس فيه ما يؤخذ عليَّ. فأما كلمة (مولانا) فكل المسلمين موالي بعضهم لبعض، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71]، وأما كلمة (الملك) فهذه حقيقة، فهو ملك مبايع من شعبه، وأما كلمة (المُعظم) فهي حقيقة كذلك، بل هو معظم جدا، ولا سيما من ناحية نسبه الشريف، إذ هو يفخر بأنه ينتمي إلى الحسن السبط أحد سيدي شباب أهل الجنة. فلم أكذب ولم أنافق فيما قلت. ثم أوردت الحديث كما هو في سنن أبي داود، وأخذت أشرحه وأربطه بالواقع، مُبيِّنا معنى التجديد وجوانبه المختلفة، وهل المجدد فرد أو جماعة أو مدرسة؟ واخترت الاتجاه الثاني، وكلمة (من) في الحديث، تصلح للجَمْع، كما تصلح للمفرد، وعرجت على قضايا واقعية حية، في الخمسين دقيقة التي استغرقها حديثي، وقد كان الملك يصغي إليَّ باهتمام: بوجهه وعينيه وأذنيه، وكذلك الحاضرون جميعا، وكان حديثي يحمل نقدا للواقع، الذي نعيشه في ديار العرب والإسلام، وهو حديث عالم مشغول بالدعوة والإصلاح والتجديد، فلا يُتصور أن ينفصل عن واقع الأمة وأدوائها وآمالها. مناقشة مع الملك وفي آخر الدرس، أو قل: بعد أن ختمته، سألني الملك سؤالا مهما على عادته في مناقشة العلماء، وذلك حين قال: إن الذي نحفظه في رواية هذا الحديث: أنه بلفظ: "يجدد لها أمر دينها". قلت: هذا هو المشهور على الألسنة، ولكن الذي رواه أبو داود في كتاب الملاحم من سننه، ورواه الحاكم في مستدركه، ورواه البيهقي في معرفة السنن والآثار، كلهم متفقون على هذه الصيغة: "يجدد لها دينها"، والتجديد بالمعنى الذي شرحته لا حرج فيه. وقد كان هذا السؤال من الملك والرد عليه مني بصراحة، موضع حديث المغرب كله: أني رددت على الملك، ولم أُسلِّم له، كما يفعل الكثيرون، ولا أرى في ذلك بطولة ولا فضلا، فقد سأل الملك سؤالا، وبيَّنت له الإجابة حسب علمي. ولن أحرّف العلم من أجل الملك، ولا أحسبه هو يرضى ذلك مني، ويبدو أن الذي تعوده الناس من العلماء: ألا يعقبوا على ما يقوله الملك. ولانشغالي بالدرس أكثر من انشغالي بالملك، لم أفكر في الدعاء له في ختام حديثي. فقد تركت نفسي على سجيتها، وكأنما أنا في درس في أحد جوامع الدوحة. وفي ختام المجلس: صافحني الملك بحرارة، وقال لي: نريدك أن تكون معنا في الموسم القادم. وطلب مني أن أبلغ سلامه إلى سمو أمير قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد فعلت. كما سلم عليّ وليّ العهد وكبار رجال الدولة، وسفير قطر، الأستاذ عبد الله الجيدة، عميد السلك الدبلوماسي في المغرب، وسفير عمان، وقد كان ممن يحضرون دروسي في الدوحة، وقد حصل على الثانوية من قطر، وهو من آل الحارثي. كان لهذا الدرس – الذي أعتبره عاديا بالنسبة لي- صدى واسع عند الناس كافة في المغرب، حتى قابلت بعض أساتذة الجامعات بعد ذلك، ووجدتهم مسرورين من حديثي، معجبين به، ولا سيما أني لم أراع فيه إلا وجه الله تعالى، ولم ألو فيه عنق الحقائق، ولم أحرف الكلم عن مواضعه، ولم أنحن ولم أنثن. ونوهت مجلة العدل والإحسان، على لسان مؤسس الجماعة الشيخ عبد السلام ياسين بموقفي في هذا الدرس. وكان عندي لقاء مع الشباب الإسلامي في تلك الليلة، التي سأسافر إن شاء الله في صباحها. والتقيت بالشباب، أظن ذلك في منزل الأخ الفاضل عبد الإله بن كيران، وعدد كبير من إخوانه، وكانوا في غاية السرور والانشراح من الدرس وصداه في المجتمع المغربي، الذي لمسه الجميع بمجرد إلقائه. وكان مما قالوه لي: إنك لا تعرف أثر هذا الدرس في هذه المملكة كلها، إن الناس في المغرب كله – على اختلاف مستوياتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية والدينية- كانوا ينتظرون ماذا سيقول القرضاوي في درسه أمام الملك: الإسلاميون، والليبراليون، والماركسيون، والقوميون، وكل الأحزاب والفئات. قلت لهم: حتى الإسلاميون كانوا ينتظرون هذا الدرس؟ قالوا: نعم، كان الإسلاميون وربما نحن منهم، يقولون: إما أن نمزق كتبه بعد هذا الدرس، إذا لم يوف بحقها، ولم يحترم ما قاله فيها، وإما أن نزداد احتراما واحتضانا لها! قلت لهم: لعل كتبي سلمت من التمزيق! قالوا: الحمد لله، بل ازددنا لها حبا، وبصاحبها تعلُّقا، وهذا هو الموقف في المغرب من أقصاه إلى أقصاه. قلت: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وألقيت فيهم كلمة دعوية توجيهية، وأجبت عن عدد من أسئلتهم التي أعدوها لتطرح علي قبل أن نتناول السحور، ونصلي الفجر، وننصرف. وأذكر من هذه الأسئلة سؤالا مهما يتعلق بإثبات بداية الصيام ونهايته، قال الإخوة: إن عندنا مشكلة تظهر في بداية كل رمضان ونهايته، فلدَيْنا فئات ثلاث من أهل المغرب: - فئة تصوم وتفطر مع (المملكة العربية السعودية)، وهم عادة من الإخوة السلفيين أو ممن يسميهم الناس: الوهابيين. - وفئة ثانية تصوم وتفطر مع (تونس) التي تعتمد الحساب الفلكي في صيامها وفطرها. وغالبا ما يتفق هذا مع مصر والجزائر وغيرهما. - وفئة ثالثة، تصوم وتفطر مع ما تقرره السلطات الشرعية المسؤولة في المغرب. وهي في العادة تتأخر عن هؤلاء وأولئك. فما رأيك في هذه الفئات الثلاث، وأيها ترجح لنا أن نتبعه؟ قلت: الكلام في هذا يطول، ورأيي الذي أفتي به من سنين طويلة: أن نعتمد الحساب الفلكي في النفي لا في الإثبات، بمعنى: أن الحساب إذا نفى إمكانية الرؤية من الناحية العلمية القطعية، فلا نقبل شهادة الشهود؛ لأن شهادة الشهود ظنية، والحساب الفلكي العلمي قطعي، والظني لا يقاوم القطعي، فضلا أن يقدم عليه. كما قال الإمام تقي الدين السبكي في رسالة له. وإذا قال الحساب بإمكان الرؤية، فإن وجود الرؤية في أي مكان يمكن أن يثبت به الهلال في البلاد الأخرى، وخصوصا ما كان قريبا منه، بناء على عدم اعتبار اختلاف المطالع. ولكن ما أراه شيء، وما هو واقع شيء آخر. فأحيانا يثبت الهلال في السعودية، مع أن الحساب القطعي يقول: إن الهلال لم يولد بعد. فالمشكلة هنا في وجود الخطأ في إثبات الرؤية، إذا كان الهلال لم يولد: كان الشاهد مخطئا أو واهما أو كاذبا. على أن الذي أقره هنا باطمئنان: أننا إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين في شعائرهم الدينية في أقطار الأرض كلها، كما يحلم كثيرون، فلا أقل من أن نحرص على وحدتهم في كل قُطر، بحيث يصومون معا، ويُعيِّدون معا؛ إذ ليس مقبولا بحال أن يصوم جماعة منهم وسائر أهل البلد مفطرون، أو تعلن العيد فئة منهم فيصلون ويكبرون وسائر أهل البلد صائمون. ولذا أرى أن أسلم المواقف في المغرب هو موقف الفئة الثالثة التي تصوم وتفطر مع أهل المغرب، بناء على تعليمات السلطات الشرعية المُخوَّلة بإثبات الهلال، كالمحاكم الشرعية، أو الإفتاء، أو وزارة الأوقاف، أو غيرها. قلت للإخوة: إن الملك قال: نريد أن نراك معنا في رمضان القادم. قالوا: ثق أنهم لن يدعوك مرة أخرى، ستُعرِّفه المخابرات: من أنت؟ وما أفكارك؟ وما دعوتك؟ وما تاريخك؟. قلت لهم: لست حريصا على الحضور، حسبي أني قلت كلمتي، وأديت واجبي. وتسحرنا، وصلينا الفجر، وذهبت إلى الفندق، لأستعد للسفر في أول طائرة إلى باريس. وفي المطار أقبل عليّ الناس يعانقوني ويقبلون يدي، ويمطرونني بعبارات الثناء والشكر والدعاء. وحين ركبت الطائرة أقبل عليّ قائدها، والمضيفون والمضيفات، كلهم قد شاهدوا درسي وتأثروا به. فأتوا يصافحونني أو يعانقونني. وفي مطار باريس، وجدت الكثيرين ممن شاهدوا الدرس في التلفاز يحيطون بي، وفي أعينهم بريق الفرح، وعلى ثغورهم ابتسامة الرضا، وعلى ألسنتهم الدعوات الخالصة لشخصي. وهذا من فضل الله علي، فما قدمت شيئا، غير أني قلت ما أومن به، وأرجو أن يكون في ميزاني في الآخرة ثوابا وجزاء، كما كان لي في الدنيا ثناء وإطراء. ولقد بقيت يوما في باريس، وصليت المغرب في إحدى المصليات، وأفطرت سريعا مع الإخوة، وبت في الفندق، لآخذ طائرة الخليج في اليوم التالي إلى الدوحة. وأذكر حادثة طريفة وقعت لي في تلك الليلة، فقد كان في حجرتي ثلاجة فيها مشروبات تعمل إلكترونيا، وأنا أُمّيّ في استخدام الإلكترونيات، فقد ضغطت على زر في الثلاجة، لأحصل على مشروب، فإذا بالزر الذي لمسته، ينزل لي (زجاجة ويسكي)!! يا للهول! وماذا أفعل بهذه المصيبة؟! المهم أني لا أستطيع أن أردها إلى موضعها من الثلاجة. وقد سجلت عليَّ في حسابي: ثمن زجاجة ويسكي معتّق! وحين نزلت في الصباح لأغادر الفندق، أخذت الزجاجة معي مضطرا لحملها، مع ما ورد في لعن حامل الخمر، ولكني أريد أن تحذف من سجلي في الفندق. واستعنت بأحد الإخوة من الجزائريين، الذين يعرفون الفرنسية، ليُفهم رجال الفندق بالقضية، أني مُصرّ على حذفها من سجلي، وبعد أخذ وردّ، وجذب وشد، استجابوا لي، ولله الحمد. ولقد تركت المغرب، وليس للناس حديث إلا درس القرضاوي أمام الملك، ورد القرضاوي الشجاع على سؤال الملك، وليس في الأمر شجاعة إلا بيان الحق بصراحة دون التواء. ولقد قال لي ابننا الحبيب وتلميذنا النجيب فريد شكري، الذي يلقبه إخوانه بالمغرب: القرضاوي الصغير، قال لي: لقد سجلت الدرس على شريط كاسيت، وأعدته مرارا حتى حفظته، ولقد كنت أكرره لنفسي، وأكرره لمَن يطلب سماعه، حتى أزعم أني سمعته حواليْ ثلاثمائة مرة!! وفي الصيف سافرت إلى مدينة جنيف في سويسرا، لأشارك في اجتماع هيئة الرقابة الشرعية لدار المال الإسلامي، وكنت عضوا فيها، وقد اصطحبت معي ابني الأكبر (محمدا)، وأردت أن أتيح له فرصة ليتفرج على جنيف. وأهم ما في جنيف هو (البحيرة) التي تطل عليها المدينة، والتي يتمتع المصيفون بالجلوس على مقاعدها، أو التجول حولها، أو ركوب إحدى البواخر التي تطوف بها مُشرِّقة ومُغرِّبة. وقد وجدت هذه أمثل الطرق للاستمتاع بالبحيرة الجميلة، التي لا أكاد أستمتع بها رغم حضوري إلى جنيف مرات ومرات. وقطعت تذكرتين لي ولابني. وكان من المصادفات الطيبة: أن وجدت الأخ الداعية الكبير الأديب الشاعر الأستاذ عصام العطار، الذي لم أره منذ سنوات. وبعد أن تصافحنا وتعانقنا، ذكر لي أبو أيمن قائلا: إن درسك أمام الملك الحسن، قد طبع منه الإخوة المغاربة الألوف المؤلفة من الأشرطة، ونشروه على نطاق واسع في أوربا، وكان له أثر بالغ في أنفس الكثيرين، فجزاك الله خيرا. وفي ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر التقيت الأستاذ الدكتور محمد عزيز لاحبابي أستاذ الفلسفة في المغرب، وزوجته الدكتورة عائشة، فكان أول ما قالاه لي: كان درسك أمام الملك بالغ الروعة، وقد أثر في أبناء المغرب، وشاهده الناس جميعا. قلت لهما: مثل هذه الدروس يهتم بها الناس، فيرونها في التلفزيون، أو يسمعونها في الإذاعة. قالا: مثل هذه الدروس تلقى باستمرار، ولا يهتم الناس بها، ولا يلتفتون إليها، وخصوصا المثقفين. ولكن لأن هذا درس القرضاوي كان موضع اهتمام الجميع. قلت في نفسي: ما أعظم ما يملك أصحاب الرسالات الربانية من قوى لا يقدر الخصوم قدرها! كلمة حق قلتها في درس كان لها هذا الصدى الهائل، وهذا التأثير الكبير، وصدق الله العظيم إذ يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25،24].