قراءة في دراما تلفزيونية للكاتب والسيناريست محمد بوزكو، وإخراج طارق الإدريسي تمهيد إلى وقت قريب، لم تكن "المسلسلات التلفزيونية" تحظى بمرافقة نقدية احترافية على غرار النقد الأدبي أو السينمائي أو التشكيلي. وكان يُنظَرُ إليها بنوع من الاستعلاء باعتبارها "جنسا صغيرا" (un genre mineur) لا يرقى إلى المكانة التي تجعله جديرا بالتكفل النقدي توصيفا وتقييما. وقد يكون هذا الوضع مرتبطا بالنخبوية التي ظلت، إلى زمن غير بعيد، تطبع النقد الجامعي والصحفي على السواء. نخبويةٌ أقصت المنتوجات الثقافية "المستَهلَكة" جماهيريا، كالحكاية الشعبية والشريط المصَوَّر (BD) والدراما التلفزيونية وغيرها. غير أن هذا الوضع تغير في السنوات الأخيرة، في الغرب خاصة. حيث صارت "المسلسلات" التلفزيونية (les séries) موضوع أبحاث جامعية وبرامج تلفزيونية وإذاعية وأعمدة صحفية ثابتة. والأمر نفسه ينطبق على الأشرطة المصورة... وعلى الصعيد المغربي يلاحظ بعض التململ في نفس الاتجاه، وإن كان لا يزال في حدود علمي منحصرا في "النقد الصحفي"... ولا شك في أن الارتقاء الذي يشهده جنس الدراما التلفزيونية يجد تفسيره في ما صار يعرفه من تجديد في الموضوعات وطموح في الرّؤى الفكرية والفنية. حيث استطاع الخروج من الإطار الضيق للميلودراما العاطفية والدراما "التاريخية" و"الاجتماعية"، ذات الطابع التعليمي، ليتصدى، بوعي نظري والتزام أيديولوجي، للقضايا الكبرى: السياسية والاجتماعية والتاريخية والبيئية والوجودية... وقد واكبت هذا الحَراك على مستوى الإنتاج ديناميةٌ موازية على مستوى التلقي. فقد أفضى الانفجار الذي تعرفة وسائط البث، من قنوات ومنصات وأجهزة استقبال الكترونية، إلى توسيع نطاق التلقي على نحو غير مسبوق. هكذا صارت المسلسلات التلفزيونية، مع هذه التطورات الكمية والكيفية، عاملا في تشكيل وعي قطاعات واسعة من الجماهير عبر العالم؛ فاكتسبت بذلك الجدارة َالتي تؤهلها لأن تنال نصيبها من المرافقة النقدية، بمختلف مستوياتها ومجالاتها وحواملها... وإذا ركزنا المنظار على المجال الأمازيغي يتأكد لنا ذلك من خلال التلقي المتفاعل الذي تشهده بعض الأعمال التلفزيونية التي تبثها قناة "تمازيغت" والتي تُحترم فيها معايير الصنعةُ الدرامية شكلا ومضمونا. لقد حلت الأعمال الدرامية محل مَرْوِيات الذاكرة الجماعية في بناء مخيال الأجيال الجديدة؛ مما يقتضي مرافقة هذه الأعمال تقييما وتقويما؛ خاصة حين تكون موضوعاتها تتعلق بالتاريخ عموما، وبالتاريخ الاجتماعي خصوصا. فهي، تشكل مصدرَ معرفةٍ لفئات واسعة من المجتمع. وعلى الرغم من أن الأمر يتعلق هنا بأعمال التخييل، التي لا تُطالب بما تطالب به الأعمال الوثائقية من احترام لمبدأ الواقعية الحرفية، فإن الانزياح عنه بغير مُسَوِّغ جمالي يفضي إلى مخالفة "الحقائق"؛ مع ما يترتب عن هذه المخالفة من ترسيخ "معارف" مغلوطة، ينشأ عنها وعي زائف وتمثلات غير صحيحة لدى الجمهور الذي تشكل الأعمال التخييلية تلك مصدره المعرفي الأساس. "رسائل مرزوق" فما هي الملاحظات التي يمكن تسجيلها، في ضوء هذه المقدمات، على الدراما التلفزيونية "رسائل مرزوق"؟ تجري أحداث المسلسل في قرية من قرى الريف. وتفيد تصريحات السيناريست محمد بوزكو بأن الإطار الزَّمَكاني للقصة هو إحدى قرى ريف ثمانينيات القرن الماضي. فهو بهذه الإفادات عن زمان ومكان الحكاية التي بُني عليها العمل يهيئ المشاهد لاعتماد نمط تلقٍّ "وثائقي"؛ بمعنى أن المسلسل توثيق لمرحلة من التاريخ الاجتماعي لقرية من قرى الريف. وبما أن وسائل التعبير المتعددة والمتنوعة لعصرنا تتيح الانتقال من التلقي الصامت إلى "التلقي الصاخب" (عبر تعليقات المشاهدين في وسائط التواصل الاجتماعي والمواقع الافتراضية...)، فإنه من الواضح أن تلك الإفادات من طرف السيناريست قد تحكمت فعلا في نمط تلقي العمل لدى أجيال ما بعد الثمانينيات؛ هذه الأجيال التي لا تملك ذاكرة تاريخية تمكنها من القيام بحركة الذهاب والإياب بين التخييل والواقع التاريخي لتقييس المسافة بينهما. وقد تجلى التلقي "الوثائقي" لأجيال ما بعد الثمانينيات في تعليقات من قبيل: "يقدم المسلسل صورة عن الحياة الاجتماعية للمرحلة"؛ "يعكس المسلسل نمط حياة آبائنا في تلك المرحلة"، وغيرها من التنويعات التي تفيد المعنى نفسه، والتي تحفل بها وسائط التواصل الاجتماعي ومنصات العرض. فما مدى "وثائقية" "رسائل مرزوق"؟ الموضوعات كما عودتنا أعمال محمد بوزكو الدرامية، تتعدد موضوعات "رسائل مرزوق" وتتشابك في حبكة متينة النسج، لا تشكو تلفيقا ولا استطرادا؛ وهي إجمالا كالآتي: – الفساد الإداري (متمثلا في تواطؤ "المقدم" ومدير البريد في الاستحواذ على الحوالات التي يرسلها المهاجرون إلى أسرهم؛ وتسخير إرساليات هذه الأخيرة إلى أربابها وأبنائها في أوروبا، دون علمها، في تهريب المخدرات)؛ الهجرة (من خلال رسائل المهاجرين إلى ذويهم في القرية)؛ الاتجار الدولي بالمخدرات وصراعات أجنحة مافيا المخدرات وآثارها على مجتمع القرية؛ – التواطؤ المفترض بين "رجل الدين (فقيه المسجد) ورموز الفساد في القرية؛ – وضعية المرأة الريفية القروية؛ – العنف الزوجي والأسري ضد المرأة؛ – تفشي الأمية؛ – اختطاف أطفال معينين لأغراض سحرية تتعلق ب"استخراج الكنوز"؛ – وضعية الفنان المَهينة في مجتمع القرية. الخيط الناظم لهذه الموضوعات المتفرقة هو أنها، جميعها، تشكل المجالات التي سيتبلور من خلالها ويَتَحَيَّن دورُ بطل المسلسل، المثقف الملتزم، الذي عُيِّنَ ساعيَ بريدٍ في القرية. إنه سيكتشف، من خلال ممارسة وظيفته، الآفات والأعطاب التي تعاني منها الفئات المغلوب على أمرها من سكان القرية جَرّاءَ تسلط أفراد متنفذين، من جهة، وجراء الأعراف والتقاليد المعيقة، من جهة أخرى. وباعتباره "مثقفا عضويا" سيسعى إلى التغيير فيتصادم مع المستفيدين من الوضع القائم، الذين سيعملون على تحييده عبر مرحلتين: في المرحلة الأولى سيحاولون استمالته ليصير شريكا لهم في الفساد؛ وفي المرحلة الثانية، بعد أن يتيقنوا من فشل محاولاتهم الاستيعابية معه، سيعمدون إلى العنف، النفسي أولا، ثم الجسدي لاحقا. أتخييل أم توثيق؟ لم يَفُت المشاهدين المخضرمين إبداء استغرابهم لمظهر ساعي البريد: هِنْداما (لباس مهني عصري) ووسيلةَ تنقل (دراجة نارية)؛ ورأوا في ذلك مفارقة زمنية (anachronisme) غير مقبولة. فهم يعرفون أن ساعي البريد في المسلسل ليس له نظير في القرية التي تجري فيها الأحداث، لا في زمن القصة (ولا في حاضر الواقع!). حيث إن "لمْقدّمْ"، ب"جَلّابته" وبَلْغَته التقليديين، هو الذي كان يقوم بمهمة تبليغ، إلى جانب استدعاءات السلطة المحلية، رسائل المهاجرين إلى ذويهم (حين يتذكر وجودها في جُبة "جلابته" بعد شهور من وصولها أحيانا). وقد "أقرّ" محمد بوزكو وجود هذه المفارقة الزّمَكانية التي تنطوي عليها شخصية ساعي البريد؛ وأنه يعرف مواصفات "النسخة الأصلية" ل"ساعي البريد" في زمان ومكان القصة. لكنه لم يعلل في "اعترافه" ذاك اعتمادَه صورةَ ساعي بريد عصري مكان "ساعي البريد – لَمْقَدّمْ العتيق. وعندي أن تعليل هذا الاختيار يكمن في الدور الذي أسنده السيناريست إلى الشخصية المذكورة. فساعي البريد في المسلسل ليس مجرد استنساخ لصورة "ساعي البريد – لمقدم"؛ وإنما هو شخصية "مكلفة بمهمة" في العالم المُمَثَّل (le monde représenté)، وذلك باعتباره عامل تغيير (un facteur de changement)، وليس مجرد "فاكتور" يوزع الرسائل! إن ساعي البريد في "رسائل مرزوق" مثقف ملتزم، كما سبق القول، ألقى به السيناريست في القرية كما يُلقى الحجر في البِرْكة الراكدة فيهتز ماؤها ويضطرب بعد ركود. لقد مكنته إقامته بين ظُهْراني أهل القرية وممارسة وظيفته الرسمية فيها من الاطلاع عن قرب على ما يسود فيها من فساد واستغلال، وتواطؤ بين المفسدين، ومقاومة للتنوير من خلال رفض تعليم البنات بذريعة احترام الأعراف، وشيوع العنف الزوجي والأُسَري ضد المرأة والبنت، وتَخلف وضعيتهما... وباعتباره مثقفا ملتزما، وحاملا لرسالة التغيير (وليس فقط رسائل المهاجرين كما كان يفعل "لمقدم")، سيسعى إلى تغيير الوضع عن طريق محاولة كسب ثقة ضحايا الوضع القائم الذين سيكون التغيير في صالحهم. وخلال ذلك سيعرض نفسه للمخاطر والمكائد التي سيدبرها المستفيدون من ذلك الوضع دفاعا عن مصالحهم المهدّدَة. لكن إصراره على مواصلة النضال من أجل التغيير سيمكِّنه من إنجاز مشروعه التنويري؛ فينتصر "الخير" على "الشر" كما في الحكاية الشعبية. من الواضح إذن أن برنامجا سرديا "تقدميا" كالذي بسطناه لم يكن ليُسنَدَ إنجازُه إلى "ساعي البريد" التاريخي: أي "لَمْقدّم" الذي كان يتولى تبليغ الرسائل في قرى الريف سبعينيات القرن الماضي! فهو طرف في المنظومة التي يسعى ساعي البريد الحداثي، ومن ورائه السيناريست، إلى تقويض أركانها. ومن هنا المفارقةُ التاريخيةُ التي تجسدت في ساعي بريد عصري مَظْهَرا ومَخْبرا. إنها المفارقة التي تُخرج "رسائل مرزوق" من جنس "الوثائقي" وتُدرجه في جنس "التخييل" (fiction): التخييل الأُطروحي (fiction à thèse). صورة فقيه المسجد في المسلسل إذا كانت المفارقة الزمنية المتجسدة في صورة ساعي البريد حيلة بلاغية سردية أملتها اعتبارات أيديولوجية، فإن صورة فقيه مسجد القرية في العمل الدرامي تقدم مفارقة تاريخية (زمكانية وثقافية) بدون مُسوِّغ تقني يُذكَر. بعبارة أخرى، تعكس صورة الفقيه رؤية أيديولوجية خالصة لدى صاحب العمل: إن الفقيه جزء من منظومة الفساد من خلال ارتباطه مَصْلَحِيا برموزه؛ فهو يستعمل سلطته الدينية لإضفاء الشرعية على الوضع القائم. والفقيه يتمتع في المسلسل بسلطة مطلقة على سكان القرية من الضعفاء المغلوبين على أمرهم من الرجال والنساء؛ وهو لا يتردد في إعمال هذه السلطة ضد كل من بدت منه بوادر الرغبة في التحرر من ربقة التحكم الذي تمارسه منظومة التخلف والفساد التي ينتمي إليها. إن وجه المفارقة التاريخية في دور الفقيه يتجلى في الصورة التي وضعها له السيناريست: صورة تجعل من فقيه مسجد القرية الريفية نسخة طبق الأصل لصورة رجل الكنيسة في النظام الفيودالي لأروبا العصور الوسطى؛ حيث كان رجل الدين يملك، مع السادة (les seigneurs)، حقَّ الحياة والموت على رعاياه... ولا شك في أن هذه الصورة تَمْتَحُ من الذاكرة القِرائية للسيناريست؛ وليس من الذاكرة التاريخية لريف الثمانينيات، كما تفيد تصريحاته. فلا هذه الذاكرة ولا الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية لهذه المرحلة وما قبلها تدعمان صورة الفقيه في المسلسل. بل إنهما معا يؤكدان، على العكس، أن سلطة الفقيه لم تكن تتجاوز جدران "ثمزكيذا"، ولا يمارسها إلا على طلبة المسجد الذين يعلمهم القرآن. ثم إن الفقيه نفسه يخضع لسلطة الجماعة... وعليه، فإن أغلب الظن أن صورة الفقيه في المسلسل انعكاس لِتَمَثُّلات لدى السيناريست مصدرُها ذاكرتُه القِرائية، كما أسلفت، من جهة، والتطورات الطارئة على الوضع المهني والاعتباري لفقيه المسجد، إلى حد ما، في السنوات الأخيرة... وضعية المرأة القروية رَفْعُ الحيف عن المرأة من بين التحديات المتعددة التي كان على ساعي البريد -نبي الحداثة- رفعها. وذلك عن طريق محاولة إقناع القرويين، نساء ورجالا، بجدوى التعليم ومحو "الأمية" في أوساط النساء والبنات خاصة. ويعزو السيناريست تفشي "الأمية" بين النساء إلى العقلية الذكورية المتحكمة، التي ترى في ولوج الإناث إلى المعرفة تهديدا للنظام الذكوري القائم... غير أن هذا الحكم يحتاج إلى التنسيب: إن انعدام مدارس قريبة وفقدان الموجودِ منها على مسافات طويلة للمرافق الحيوية، فضلا عن أوضاع الفقر والهشاشة التي تجعل الأسر ترى في التعليم ترفا بعيد المنال، كلها عوامل كانت تحول دون التمدرس عموما وتمدرس البنات بالأحرى. إن الذهنيات لا تفسر كل شيء! فمع التوسع التدريجي لشبكة المدارس لم يعد الآباء يحجمون عن إرسال بناتهم إلى المتوفر منها. فلا تزال "العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والبنية الفوقية" (كما نظّرَ لها المغضوب عليه كارل ماركس) ساريةَ المفعول... ارتباطا بوضعية المرأة القروية، أوْلى المسلسل، عن حق، اهتماما خاصا بالعنف الزوجي والأُسَري ضد النساء. ومرة أخرى يربط هذا السلوك المشين بتغوُّل العقلية الذكورية في القرية... وهنا أيضا أرى أن هذا الرأي يستوجب بعض التنسيب. إن العنف الأسري عامة والزوجي خاصة إنما ينشأ عن تصادم القيم والمرجعيات... وبما أن النساء والرجال في القرية (التاريخية لا التخييلية) يشتركون فيها، فلم يكن العنف بالانتشار الذي يوحي به المسلسل. أما العنف الخاص المتمثل في العنف الزوجي، فإن "الواقع" -كما يتجلى في الاحصائيات على الأقل- يثبت أن هذا السلوك المَرَضي لا يخلو منه مجتمع ولا طبقة اجتماعية مهما بلغا من الحداثة والتمدن... وعليه، فإنني لا أستبعد أن يكون "الجموح" التحديثي عند محمد بوزكو هو المسؤول إلى حد ما عن رؤيته لوضعية المرأة الريفية عموما، وللعنف الزوجي خصوصا. إن نزعته الحداثية هي التي تقف، في نظري، وراء تمثُّله لمكانة المرأة في "ريف الثمانينيات"؛ وهي نفسها التي تجعل الطابع "الوثائقي" المعلَن للعمل الدرامي قابلا للتنسيب... اختطاف أطفال موسومين لأغراض سحرية الواقع أنني فوجئت بإدراج هذا الموضوع بالطريقة "الواقعية" الذي تمت به. لقد بدا لي أن السيناريست حريص على أن يسلط على قريته الريفية المنكوبة كل الآفات! وقد كانت "الوثائقية" المعلَنة للدراما بخصوص هذه النقطة تَكون مقبولة لو أن السيناريست أدرج موضوع اختطاف الأطفال "الزُّهريين" لأغراض سحرية تتعلق باستخراج الكنوز باعتباره إشاعة من الإشاعات الرهابية التي يُتَصوَّر انتشارُها داخل الجماعات المنغلقة على ذاتها، الرازحة تحت ثقل الجهل والخوف اللاعقلاني الذي ينشأ عنه (على الأقل من وجهة نظره التي لا أشاطرها إلا نسبيا)... لكنه لم يفعل؛ وأدرج موضوع اختطاف أطفال "موسومين" للغرض المذكور باعتباره ظاهرة من الظواهر المألوفة في القرية! وليس ذلك فحسب؛ بل إن فقيه المسجد نفسه متورط في شبكة اختطاف أولئك الأطفال! إنه إذا كان إقحام هذا الموضوع قد أمَدَّ العمل بزخم درامي قوي جرّاءَ ما يتضمنه من حساسية (يتعلق الأمر بأطفال أبرياء)، ولِأنه يوقظ المخاوف العتيقة (archaïques) الثاوية في اللاوعي، المتعلقة بإمكان فقدان الأبناء – إذا كان ذلك كذلك، فإن لاواقعية هذا العنصر الدرامي تُنسِّب تصريحات محمد بوزكو إبان تسويق العمل؛ كما ينبغي أن تُنسِّب، بل أن تستبعد، كل تلقٍّ "وثائقي" له. على سبيل الاستنتاج إن ما تقدم يدعونا إلى القول: إن "رسائل مرزوق" عمل درامي تخييلي (une œuvre de fiction) يعكس نظرة المؤلف إلى مرحلة من مراحل تاريخ القرية الريفية؛ وإن تقديمه باعتباره عملا وثائقيا (un documentaire) عن التاريخ الاجتماعي للمجال المذكور، دون اعتبار للمفارقات التي أحصينا بعضاها أعلاه، لَموقفٌ فيه تَجَنٍّ على الطابع التخييلي للعمل. فهل تنتقص الصبغة التخييلية لهذه الدراما التلفزيونية من قيمتها الفنية؟ الجوابُ: أن لا، إطلاقا! وذلك لسببين اثنين: أما الأول فَفَنِّي مَحْضٌ، وهو أن العمل تتوفر فيه كل معايير الدراما الناجحة: سيناريوها وإخراجا وتصويرا وتشخيصا؛ مما تُرجم على مستوى التلقي بمشاهَدَة متفاعلة واسعة، تَحَوَّل معها كثير من المشاهدين إلى "كتاب سيناريو" مشاركين افتراضيين. وأما الثاني فَنَظَرِي عام؛ وهو أن المطلوب من العمل الفني عموما، والدرامي منه على الخصوص، هو إنتاجُ المعنى لا عكسُ الواقع وإعادة ُانتاجه حرفيا (مع الحرص طبعا على عدم تحريفه أو تزويره إذا كانت القصدية الوثائقية حاضرة عند صاحب العمل). دون إغفال بُعد أساسي في نظري على الأقل: ألا وهو حَمْلُ "الشيء الأمازيغي" إلى التلفزيون، لغةً وفضاءً وشخوصا، باقتدار وبدون عُقَد ولا وجل. ختاما... فقد آثرت العودة إلى "رسائل مرزوق"، العمل الذي أُنجِزَ وعُرِضَ وشوهد، على الانخراط في حملة "النقد الاستباقي" لعمل سينمائي للسيناريست لا يزال في طور الإنجاز! وإنه لَمِنْ دواعي القلق أن نسمع ونقرأ هنا وهناك كلاما يُشكِّك في قدرة، بل وفي ذِمَّةِ، منتج ومخرج فيلم "أنوال" ولَمّا يَرَ العملُ النور! إن التطرف في تقديس الماضي من شأنه أن يَشُلّ الحركة نحو المستقبل. وأشُكُّ أن يكون هذا من مذهب صُناع "أنوال" التاريخي...