قال المنتصر السويني، الخبير في المالية العامة والعلوم السياسية، إن الخطاب الملكي الأخير خطاب يبقى تحت سقف الدستور (الفصل 65 من الدستور)، وأن الحديث عن هذا الخطاب لا يستقيم دون التركيز عليه، وعلى مكانه (البرلمان)، وزمنه المرتبط باللحظة الدستورية المتعلقة بافتتاح الدورة الخريفية، مشيرا إلى أن افتتاح الدورة الخريفية يبقى مرتبطا زمنيا بمرحلة الدخول السياسي والتشريعي في المغرب، ومن هنا يستمد الخطاب الملكي الأخير أهميته، وبالتالي فإن قراءته لا يمكن أن تغفل مكان وزمان ومحتوى هذا الخطاب. وفي جواب عن سؤال لهسبريس حول طبيعة الرسائل التي يمكن استخلاصها من الخطاب الملكي الأخير، أشار السويني إلى أن أول ملاحظة تستوقف المتتبع هي محاولة قراءة الظروف الآنية المرتبطة بالتقاء المؤسستين الدستوريتين (المؤسسة الملكية- المؤسسة التشريعية)، وهو ما يرسخ في الواقع التقاء مجال السياسة المرتبط بمؤسسة السيادة الشعبية والشعب المشرع، ومجال السياسة المرتبط بمجال القرار، وبالتالي ثنائية (التشريع- القيادة). وأضاف السويني، في الجواب ذاته، أن حضور الملك إلى المؤسسة التشريعية تميز بالحضور الشعبي الذي اجتاح شارع محمد الخامس بالعاصمة الرباط، مشيرا إلى أن هذا الحضور يستوقف المتتبع للبحث عن دلالاته، خصوصا أن هذا الحضور الشعبي المؤيد يفتقده الزمن البرلماني العادي بشكل كبير، بل وجب التأكيد على أن الزمن البرلماني العادي يتميز فقط بوجود الحراك الشعبي الاحتجاجي. وأوضح السويني، في حواره مع هسبريس، أن الحضور الشعبي الداعم، بالنسبة للفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، يفسر بأنه ترسيخ لما يطلق عليه "التأييد"، والتأييد في الحقل السياسي بالنسبة لأرندت يعني ثنائية التأييد والدعم، وفي غياب التأييد والدعم يفقد القول السياسي بشكل خاص والفعل العمومي بشكل عام ثقله وسموه. وهذا الحضور الشعبي الداعم، يقول السويني، هو حضور تأكيدي للأثر والنتائج الإيجابية التي تتركها السياسات المرتبطة بمؤسسات القرار والخصوصية والشخصنة والقيادة، وفي المقابل فإن حضور الحراك الشعبي الاحتجاجي في الزمن التشريعي العادي يبقى مرتبطا بعدم الرضى عن مؤسسة القانون والعمومية، والتداول الجماعي وغياب الشخصنة، مما يرسخ تعزيز الموقع القوي للمؤسسة الملكية، مضيفا أن الحضور الشعبي المؤيد في الشارع المقابل للبرلمان كان يعني بالنسبة للمتلقي السياسي انحياز الشارع إلى استراتيجية ترسيخ الملكية التدبيرية والتقريرية. أما الرسالة الثانية المعبرة عن اللحظة الدستورية المتعلقة بالتقاء ثنائية (الملك- البرلمان) فتتجسد، يوضح السويني، من خلال كون هذه اللحظة تحمل رمزية كبيرة متعلقة أساسا بالتغييرات السنوية التي يعرفها المستوى السياسي الأعلى (الملكية- البرلمان)، خصوصا أن هذا الثنائي يمثل فعليا ما يطلق عليه ميشيل دوبري "رأس الشعب" في تقديمه لإصلاح العدالة الفرنسية سنة 1958، حيث لم يتردد في الإشارة إلى ضرورة وجود الرأس الذي يقود ويفكر، وبالنسبة له فالرأس هو الحياة السياسية للشخص وهو المسؤول عن الجسم بشكل كلي. وبعدما أشار إلى أن الملكية تحاول أن ترسخ الزمن الحاضر، وبالتالي لا يمكن أن لا يقدم الحضور السنوي للملك إلى البرلمان شيئا جديدا (لأن ذلك سيعني أن المغرب يوجد في قاعة الانتظار)، أكد السويني أن "المحتوى الجديد كان يعني عمليا إعادة صياغة حقيبة الأفكار أخذا بعين الاعتبار متغيرات الواقع، خصوصا ما حدث بين لحظة افتتاح الدورة التشريعية في العام الماضي والزمن الحالي، وبالتالي كانت المؤسسة الملكية تتفوق في ربط الحاضر بالمستقبل، بينما بقيت المؤسسة التشريعية، من خلال الوفاء لاستراتيجية الشعب المشرع، مرتبطة بربط الزمن الماضي بالزمن المستقبلي وبالعموميات، وفقدت بالتالي ثقلها في التأثير على الحاضر". وذكّر الباحث ذاته بأنه من المعروف أن المقاربة السياسية لا يمكن فصلها عن ثنائية (الفعالية السياسية المرتبطة بالنقاش البرلماني والفعالية السياسية المرتبطة بالقرار والفعالية)، مشيرا إلى أن اللقاء السنوي الدستوري للمستوى السياسي (الملك- البرلمان) يرسخ تراجع الفعالية السياسية المرتبطة بالنقاش البرلماني وصعود الفعالية السياسية المرتبطة بالقرار والفعالية (الاهتمام الشعبي والإعلامي باللحظة الدستورية المرتبطة بافتتاح الدورة الخريفية، والتراجع المقلق للاهتمام بأشغال الدورات البرلمانية من طرف الشعب والإعلام). وفي رده على سؤال للجريدة حول الاهتمام باللحظة الدستورية المرتبطة بافتتاح الدورة الخريفية، أوضح السويني أن ذلك ناتج بالأساس عن ثقل الخطاب الذي تلقيه المؤسسة الملكية، وكذلك اهتمام الخطاب بالقضايا الوطنية الأساسية (الجفاف- الاستثمار- التشغيل- القيمة المضافة)، مضيفا أن الملك من خلال محتوى الخطاب الملكي كان يوجه رسالة مهمة الى المتتبعين يذكرهم فيها بطروحات القانوني ليون ديغيت، التي تؤكد أن المشروعية السياسية اليوم تقاس ليس فقط من خلال مصدرها أو شكل تأسيسها الانتخابي (المشروعية الشعبية)، بل من خلال الغايات، وبالتالي من خلال الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات الدستورية إلى الأمة (المصلحة العامة)، خصوصا أن الزمن الحاضر يتميز بكون المشاكل التي تعيشها الشعوب لا تجد حلولا لها من خلال القاعدة القانونية، بل في ضرورة الحصول على النتائج الملموسة. واستحضر السويني الكاتب والصحافي الفرنسي بيرترون دوجوفنيل، الذي أكد في كتابه "تطور أشكال الحكامة" أن التطور المطلوب اليوم هو الانتقال من "سيادة القاعدة القانونية" إلى ما يطلق عليه "سيادة الهدف"، مشيرا إلى أن التفوق الفعلي للمؤسسة الملكية تجسد من خلال النجاح في منح الأولوية لاستراتيجية "سيادة الهدف"، وبقاء هذه المؤسسة في اللحظة الدستورية المتعلقة بالخطاب الذي يلقيه الملك أمام البرلمان تحت سقف "سيادة الهدف"، مع ما يتطلبه ذلك من مجهود جبار من أجل تحيين الأجندة ودراسة الأثر وقراءة الواقع وطرح سيناريوهات الحل (الحديث عن أزمة الماء مثلا)، مضيفا أن ذلك لم يكن فقط انحيازا من المؤسسة الملكية إلى استراتيجية الهدف، بل إعلانا واضحا عن انتمائها إلى المدارس التدبيرية الحديثة والمتجددة. وأوضح الخبير في المالية العامة والعلوم السياسية أن تركيز الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية على استراتيجية الهدف كان رسالة مبطنة لأصحاب المشروعية الانتخابية وأصحاب استراتيجية "القاعدة القانونية" بأنه حان الوقت للانتقال من حقيبة الأفكار المرتبطة بسيادة القاعدة القانونية للمدرسة القديمة إلى المدرسة الحديثة المعتمدة على تعزيز المهمة الرقابية ومهمة تقييم السياسات العمومية والتقليص من الثرثرة القانونية (التشريع). وعن الرسالة الثالثة التي يجب استخلاصها كذلك من اللحظة الدستورية المتعلقة بالتقاء ثنائية (الملك- البرلمان)، أوضح السويني أن الخطاب الملكي يتفوق في شيء أساسي يتمثل في قدرته على صياغة ما يطلق عليه "الأجندة العمومية الوطنية"، وهنا أكد الملك أن السياسة اليوم تحتاج إلى امتلاك القدرة على التشخيص، والقدرة على التشخيص هي أصعب مهمة في العمل السياسي، وإذا كان ماركس قد أكد على أن الفلاسفة مطلوب منهم أساسا تغيير العالم، إلا أن تغيير العالم يحتاج أولا إلى القدرة على تشخيص مشاكل العالم، وبالتالي فإن الفعل العمومي اليوم يركز على القدرة والتفوق في تحديد "الأجندة العمومية الوطنية"، يضيف السويني. وتابع قائلا إن الرسالة الرابعة التي أراد الخطاب الملكي التركيز عليها تتمثل في كون هذا الخطاب يتموقع داخل سقف السياسة الوطنية، أي خطاب من داخل العاصمة الرباط ومن داخل المؤسسة التشريعية، وحيث إن الملكية سياسيا، يقول الباحث، تؤطر رقعة "المحلي- الوطني- الدولي"، فإن الملك من المفروض كذلك أن يرسخ الحضور في المحلي والوطني والدولي. وأضاف أنه في زمن العولمة من المفروض على الملك أن يسافر خارجيا، خصوصا في مرحلة تغيير البوصلة الاستراتيجية وتعزيز استراتيجية اللوجستيك والبحث عن الاستثمارات وتعزيز موقع المغرب في النظام العالمي الجديد، وبالتالي فإن سؤال أين الملك؟ من المفروض أن يطرح إذا كان الملك يتواجد خارج رقعة المحلي أو رقعة الوطني أو رقعة الدولي. ويشير السويني إلى مقال بمجلة "جون أفريك" أكد فيه الصحافي ماتيو أوليفيي أن من يحتلون المراكز الرئاسية في الدول عليهم أن ينتصروا على فوبيا الخوف من ركوب الطائرات لأن مهامهم ستحتم عليهم السفر كثيرا عبر العالم، مضيفا أن المؤسسة الملكية من خلال الخطاب المتعلق بافتتاح الدورة الخريفية البرلمانية تؤكد أن الحضور في الزمن الوطني لا يلغي الحضور في الزمن المحلي ولا الحضور في الزمن الدولي، وكانت دعوة مبطنة كذلك لأصحاب سؤال أين الملك؟ من أجل قراءة كتاب "نهاية الجغرافيا" لمؤلفه برترون بادي. أما الرسالة الخامسة التي توجهها اللحظة الدستورية المتعلقة بالتقاء ثنائية (الملك- البرلمان)، فقد ربطها السويني بتفوق المؤسسة الملكية في تزيل ما يطلق عليه "المسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل"، خصوصا أن البقاء تحت مظلة المصلحة العامة يعني عمليا التفوق في تنزيل استراتيجية "المسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل"، مشيرا إلى أن السوسيولوجي ماكس فبير سيركز على أن عصر ما يطلق عليه "البرلمانية المعقلنة" يعتمد أساسا على ضرورة الحصول خلال مرحلة التنصيب الحكومي على ما أطلق عليه المشرع الدستوري المغربي "التنصيب الحكومي" في الفصل 88 من الدستور من طرف البرلمان قبل الانتقال إلى الفعل. وأضاف في السياق ذاته أن البرنامج الحكومي موضوع التنصيب الحكومي هو تأكيد على الثقة من خلال القدرة على مواجهة المستقبل، ومن هنا فإن محتوى الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية لا يمكن فصله عن تحديد المؤسسة الملكية لاستراتيجيتها العامة للفعل في المستقبل القريب، وبالتالي كان التزاما من المؤسسة الملكية أمام الأمة بخصوص الأجندة المعلن عنها ودعوة لباقي المؤسسات (المؤسسة التشريعية- المؤسسة التنفيذية) إلى الانخراط الفعلي في تنزيل هذه الاستراتيجية على أرض الواقع. من جهة أخرى، يضيف السويني، وجب التأكيد على أن شكل ومحتوى ولغة الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية كان إعلانا واضحا عن الإرادة القوية للفعل. وهنا وجب التأكيد، يتابع المتحدث، على أن قوة المؤسسات التدبيرية والتقريرية في العالم تقاس بمدى توفرها على إرادة قوية للفعل، مشيرا في هذا السياق إلى أن المؤرخين لقبوا نابليون ب"غول الإرادة" لأن إرادته القوية مكنته من النجاح في تنفيذ مشاريع صعبة ومستحيلة، ومعطى "قوة الإرادة" جعل الباحثين يعمدون إلى تصنيف المؤسسات التدبيرية والتقريرية في العالم إلى صنفين، صنف العاجزين وصنف القادرين. وذكر السويني ببيير روسانفالون، الذي أكد في كتابه "الحكومة الجيدة" أن العصر الحاضر يعرف ما يمكن أن يطلق عليه "أزمة الإرادة"، وما يؤكد ذلك في نظره هو الإحساس بالعجز عند الحاكمين، وبالتالي تتوسع جبهة الرؤساء الراكعين والعاجزين عن الفعل من خلال الأجندة الواضحة والتصميم على الفعل (أزمة الجفاف- تشجيع الاستثمار- التحديث- الرقمنة- التبسيط...)، مضيفا أن الملك يثبت أنه من طينة الحكام الواقفين، الذين يؤثرون ويغيرون الواقع، والذين يمتلكون كذلك الإرادة القوية لمواجهة المستقبل. وأوضح الخبير في المالية العامة والعلوم السياسية أن الأكاديمي بيير روسانفالون يقسم الإرادة إلى صنفين، هما "الإرادة العاكسة" و"الإرادة الإسقاطية"، موضحا أن الإرادة الإسقاطية تعتمد على القوة والتخيل والقدرة على الانتصار على المقاومات والانتصار على الخصوم والقدرة على الفعل في الزمن، وبالتالي تميز الشخص القادر والشخص المحارب والمقاوم في التاريخ. أما الإرادة العاكسة، يضيف السويني، فتعتمد على التعدد الاجتماعي وتأخذ هذا التعدد كمجال حيوي للسياسة، وبالتالي تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف والتفاوتات الاجتماعية والأحكام المسبقة التي تقسم المجتمع من أجل وضعه على الطاولة وإخضاعه للنقاش العمومي، وبالتالي التزام الحاكمين في هذه الحالة بالعمل الجماعي. وترتبط الإرادة العاكسة، يتابع السويني، بالقدرة على تغيير المجتمع من خلال الاعتماد على وضعيته الحقيقية، عبر التركيز على أماكن الخلل والدعوة إلى حلها من أجل الانطلاق إلى الأمام (العراقيل أمام الاستثمار). وختم السويني حواره مع هسبريس بالإشارة إلى أن الخطاب الملكي المخصص لافتتاح الدورة البرلمانية الخريفية عمل على المزج بين الإرادة الإسقاطية، أي قوة الإرادة الأحادية، وكذلك الإرادة العاكسة، أي القيادة الجماعية أو القيادة من خلال الشبكات، مضيفا أن الإرادة العقلانية هي الإرادة التي تعرف الخلطة المناسبة بين ثنائية "الإرادة العاكسة" و"الإرادة الإسقاطية"، التي يجب توظيفها في كل حالة وكل ظرف حسب طبيعة وخصوصية المشاكل المراد حلها.