في سماء المغرب وفرنسا يتشابك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وأمور أخرى؛ لكن للقدر أحيانا رأيا غير الذي يُشتهى، وتلك آية تنطبق حكمتها على فرنسا ومن يدور في فلكها من أبناء جلدتنا ممن تنكر لهويته وثقافته وأصبح متيما بها حد الجنون. يريدنا مستعمرنا القديم مجرد دولة موز ينهب خيراتها ويرسم سياستها وفق مصالحه، ويفتعل لها الأزمات متى شاء ويطوقها بأحلاف ليخضعها لهواه كيفما شاء. لكن عطر باريس لم يعد فاتنا كما في السابق، وفاحت في فضاء العلاقات الدولية عطور أخرى، وبدأت حبال كثيرة ينفك وثاقها. ولعل بوادر انفراط عهد لغة موليير وخفوتها عالميا، مقابل لغات أخرى، أبرزها الإنجليزية، أبلغ إشارة. كانت اللغة ومازالت أخطر سلاح تستعمله الدول الغربية لممارسة الاستلاب الثقافي، وصنع نخب موالية لها في الداخل، واستنزاف البلدان المستهدفة من خيرة أبنائها، ولن تكون فرنسا استثناء. على مدى عقود تم إنشاء مجموعة من المراكز الثقافية ومدارس البعثات في أهم المدن، كما أن المدارس الخاصة المغربية لا تدخر جهدا للحاق بالركب نفسه. في التعليم عمومي تحتل اللغة الفرنسية أيضا حيزا مهما وتكاد تنفرد بالسيطرة على التعليم العالي، باستثناء بعض التخصصات التي تدرس باللغة العربية، كالحقوق والأدب العربي. والإدارات العمومية تخضع للمنطق نفسه، ويزداد الأمر استفحالا في المقاولات والشركات الخاصة. كما أن طغيان اللغة الفرنسية في حياتنا اليومية لا تخطئه العين مقابل تهميش واضح للغاتنا الوطنية. وكل محاولة لتغيير هذا الوضع تقابل بشراسة شديدة على جميع الأصعدة. لكن تأبى رياح الحياة إلا أن تعاكس هذا الجمود، وما توجه مواطنين كثر إلى تلقين أبنائهم لغات أخرى أكثر طلبا إلا كسر ولو بطيئ لسلسلة التبعية، ولا بد للدولة أن تساير، ولو بعد حين، بعدما تدرك أن فك الارتباط اللغوي هو أهم خطوة نحو التحرر، ولنا في رواندا مثل يحتذى. كل محاولة للانعتاق من قبضة فرنسا ستقابلها مقاومة شديدة وافتعال للأزمات، ولن تكون آخرها قضية التأشيرات، وستظل تخضع لميزان القوى الذي لا يخدم مصالح المغرب بالضرورة، في انتظار فطام قد يكون طويلا ومؤلما، لكن لا غنى عنه. وما ينطبق على فرنسا يسري على دول أخرى، كإسبانيا وغيرها. إن كان لنا أن نستخلص العبر من أزماتنا المتواصلة مع فرنسا، ومن خلالها مع الاتحاد الأوربي، فإننا يجب أن نكون داخليا أقوياء كما يجب؛ عندها سنصبح قوة إقليمية كما يجب، ولن ننتظر أحدا ينصرنا. ولنا في تركيا نموذجا آخر للتأمل.. بين الشرق والغرب، انبعثت هذه الدولة من بين مخالب التاريخ وفخاخ الجغرافيا؛ بفضل نجاعة إصلاحاتها الداخلية وواقعيتها، استطاعت فرض أجندتها وكسر سلاسل الاستعباد التي طوقها بها الغرب لعقود؛ أدركت ذلك جيدا وتخلت عن سياسة التماهي معه، وأوقفت مسلسل الإذلال من أجل انضمام يتيم إلى اتحاد بات أقرب إلى الضعف منه إلى القوة. المواطن المغربي البسيط، ناهيك عمن هم في مواقع القرار، يدرك أن قدرنا أن نعيش بين الشرق والغرب، ونقاوم أطماع الشرق والغرب. وفي تاريخ المغرب أمثلة بارزة: محاولات الإمبراطورية العثمانية إخضاع البلد وغزو كل من البرتغال وإسبانيا لمدننا الساحلية، لتظل مدينتا سبتة ومليلية المغربيتين ندبتين من ندب التاريخ العصية على الزوال. قدرنا أن نقاوم جارا مصابا بفوبيا المغرب المنبعث من تحت رماد التاريخ، ليعيد الفردوس المفقود، والمهووس بماضيه الاستعماري البائس، والحديث هنا يطول. لقد قالها طارق بن زياد منذ قرون: "البحر من أمامكم والعدو من خلفكم". نحن نعيش في جغرافيا محاطة بطامعين متربصين وكأننا في جزيرة. من هذا المنطلق يشتغل المغرب وعليه أن يشتغل. لا صديق لنا ولا أخا.. عندما تتعارض المصالح يتصادم الإخوة ويتقاتل الأصدقاء. علاقاتنا لا بد لها أن تُبنى على أسس المصالح السياسة والاقتصادية المتبادلة، وعلى وقائع حقيقية على الأرض، وليس فقط على شعارات وأماني جوفاء لا تفيد في شيء، وألا نستكين إلى ما أنجزناه، فالطريق أمامنا مازال طويلا وشاقا للقطع مع كل مظاهر الفساد والتخلف. نحن مطالبون بالتقدم والمقاومة بدون توقف، ومقاومتنا لن نستمدها إلا من قوة مؤسساتنا واقتصادنا وتعليمنا وانخراط جميع أبنائنا بدون استثناء في بناء وطن قوي عصي على السقوط. حينها فقط قد نتحدث عن كثير من التاريخ والحاضر بين المغرب وفرنسا وغيرها، والمستقبل يقل أو يكثر حسب مصالحنا أولا.