إن الاحتفال ببعض المناسبات الدينية أوالدولية او الوطنية التي يختلف الناس حولها ينبغي أن ينظر إليها في تقديري من جهة ما يترتب عليها ومن جهة ما يتوسل به إليها. ولهذا فكثير من المناسبات لها فوائد قيمية تربوية وصحية واجتماعية ووطنية تعزز مبدأ الوحدة والتضامن والاستقرار والهوية.. وتلك غايات ومقاصد دينية كذلك. والمنع والإباحة في هذا الموضوع قد لا يتعلق بعين الحدث بقدر ما يتعلق بما يحف به إذا كان أصل الحدث إيجابيا بالمعنى الذي أشرنا إليه. والذين يمنعون بإطلاق هم كالذين يبيحون بإطلاق من حيث عدم تمييزهم بين مكونات وعناصر الحدث الذاتية والعناصر الخارجية الطارئة، هذ من حيث العموم والاجمال. يدخل في هذا السياق الاحتفال برأس السنة الميلادي، ميلاد عيسى عليه السلام، إذ المفروض أن يكون إحياء لمعالم الرسالة ودورها في هداية وإرشاد البشرية كما بشر بها عليه السلام. ولا يتوقف الأمر عند عيسى عليه السلام، فحبذا لو احتفلنا أو خلدنا في هذا السياق ميلاد ووفاة ما استطعنا من الأنبياء والرسل تذكيرا بجميل تحملهم وعطائهم ونفعهم للبشرية عبر التاريخ انتهاء بخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعا. وأضعف الإيمان أن يكونوا في ذلك كعظماء وحكماء الأمم والشعوب الذين يحتفى بهم بين الفينة والأخرى، تعريفا بهم وبرسالاتهم لدى فئات واسعة تجهلهم ولا تعرف عنهم شيئا. ومعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم عن ذلك، فقالوا: يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. وفي رواية ونحن نصومه تعظيما له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. كما أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الرسل والأنبياء قبله تحملا وأداء وفضلا معروف في سيرته وسنته. لكن، للأسف فيما يتعلق بهذه الاحتفالات كما انتهى واستقر أمرها الآن فيجدر التنبيه إلى أمرين أساسيين : الأول: مظهري خارجي يتجلى في هستريا الطقوس المصاحبة لذى الكثيرين من سكر ومجون وعربدة... وهتك لكل الأستار والحواجز وكأن الناس نشطوا من عقال أوحل بهم "يوم الحرية الأكبر" !!. والذين توسعوا في المنع والتحريم إنما كان ذلك منهم درء لهذه المفاسد والمحرمات البينة. وللأسف فإن كثيرا من المقلدين في العالم العربي والإسلامي لا يرون في هذه المناسبة والحدث إلا هذا الجانب السلبي من المجون ، يستوي في ذلك عامتهم بخاصتهم. مما يطرح سؤالا على هذا الصنيع المناقض تماما لرسالة الرسول المحتفى به المبشر بقيم الطهر والعفة والمحبة والاستقامة والتعبد الخالص والأخوة والصلاح النفسي والروحي.. فكيف يبني هؤلاء منكرات على معروف !!. لو استعرنا من عالم الاجتماع الديني المعروف إيميل دوركهايم خلاصات دراساته لبعض المجموعات البشرية على أنها تعبد وتقدس في النهاية نفسها وإنما تتخذ الرموز والتواتم واسطة ووسيلة، وعت بذلك أم لم تع به، فإنه يصح القول أن هؤلاء إنما يحتفون بأنفسهم وبقناعاتهم ويشبعون نزواتهم وشهواتهم وليس بالرسول ولا بالرسالة، مادام كل قول وفعل يأتونه هو على خلافها ونقيضها. وأغلبهم لا يعرفون عن اليوم إلا الاسم الذي اشتهر به : " رأس العام "، أما صاحبه وتاريخه وأصوله وفصوله فلا تسأل عن ذلك حتى كثيرا من النصارى أنفسهم الذين وجدوا أمامهم تقليدا آبائيا فاتبعوه. الثاني : ثقافي عميق يتجلى في هيمنة الفكر المادي الاستهلاكي الرقمي الذي همش المسيحية والقيم الدينية عموما لفائدة قيم صناعية بديلة. فلم يعد ينظر إلى الأديان إلا كطقوس موسمية مفرغة من أي مضمون، لا علاقة لها بالبناء الاجتماعي والحضاري. وكأنها هياكل ومعابد جامدة تشهد على "عظمة العصر الصناعي" دون القدرة على التأثير فيه. فيتم تشجيع هذه الطقوس ذات الشعار الديني المعبئ ، ولكن بمضامين لادينية مادية استهلاكية محض، وقد يتوهم بعض المتدينين أنهم يحيون شعيرة دينية فعلا. والأخطر من ذلك أن هذا التفريغ من المحتوى والمضمون القيمي المسدد لعمل الإنسان والباني للمجتمع والعمران، بدأ يزحف على شعائرنا الدينية نحن كذلك، في رمضان والحج والزكاة وكثير من العلاقات... مما يستدعي التنبيه إلى ضرورة إعمال وتفعيل القيم الحقة التي يستهدفها طوفان المحو والإبطال والتمسك بها قبل الزوال. والأعجب من هذا أيضا أن نجد لا دينيين عندنا أو عندهم، هم أسبق وأسرع الناس إلى الدفاع عن هذه الطقوس المفرغة من المضامين والمحتوى، والمنافحة عنها ضد من يحرمونها أو يمنعونها أو حتى يرغبون في توجيهها، وهم في ذلك كسابقيهم لا يدافعون عنها تدينا وإنما يدافعون عن اختياراتهم وقناعاتهم من خلالها. لا يخفى أيضا أن هذا الحدث تستغله قنوات وكنائس ومؤسسات تبشيرية كثيرة من خلال هدايا "البابا نويل" للأطفال والفقراء، ومن خلال "شجرة الميلاد" التي غدت مقدسة.. هذا علما أن معظم هذه الطقوس وثنية ترجع إلى ما قبل المسيحية نفسها كفكرة شجرة الميلاد ونوعها وأصل وطريقة استعمالها حيث اعتبرت لخضرتها رمزا للحياة الدائمة لدى بعض الشعوب القديمة كما كانت تقليدا رومانيا للتزيين في بعض الأعياد الوثنية كعيد ميلاد الشمس.. وفكرة "البابا نويل" وهو يسوق عربته في الهواء وهي أشبه بالتعبير عن آلهة في السماء.. شمسا أو قمرا.. مما كان يعتقد الانسان في تأثيره. أما تجسيم وتجسيد تلك الأفكار وفق أنماط وصور خادعة فحدث بعد الميلاد بقرون عديدة ، فإذا كان للبابا نويل أصل في القديس نيقولاس في فعل الخير والاحسان الى الآخرين فلم تم إخراجه بهذا الشكل؟. كما أن ميلاد المسيح نفسه لم يكن في هذا التاريخ الذي حدد له بل يرجعه المؤرخون إلى تاريخ قبله .. مما يجعلنا أمام عناصر تم تركيبها لإخراج مشهد لا ديني يمتطي صهوة الدين. للشعوب طبعا اختياراتها في التعبير عن نفسها كما تريد وبالطريقة التي تريد، لكن عندما تعم هذه الاختيارات البشرية بكاملها وتزحف تدريجيا على قيمها، فمن حقها كذلك التدخل للتقويم والتصويب. ولست أنفي هنا بعض الصور الجميلة التي تعبر عن قناعات أصحابها داخل الكنائس وخارجها وهي تقترب من روح وجوهر الحدث، وصور التهنئة التي يتبادلها المسلمون مع النصارى بمناسبة الحدث إجمالا، لكنها قليلة ونادرة أمام هيمنة الصخب والضجيج واللاوعي . وللأسف مرة أخرى، نحن لا نستثمر مثل هذه الأحداث والمناسبات لتعميق الحوار في قضايا التعايش الديني والسلم والأمن الاجتماعي والحوار الثقافي، أو في دور الأديان الجديد في تقويم مسار الهيمنة التقنية والصناعية على مجال العلم والمعرفة، والتي تتحكم فيها شركات إنتاجية عملاقة تقود شعوبا نحو المجهول ، وفي ترشيد السلوك الانساني عموما نحو قيم الخير والسماحة والاعتدال والسلم والأمن.. بدل قيم الغلو والتشدد ونزوعات التطرف التي تجتاح الأديان والثقافات وتؤجج نار وسعار الحروب المشتعلة. فهذه إشارات سريعة هي وجهة نظر ورأي وليست فتوى تحلل أو تحرم، تحاول أن تضع من يهتم من القراء في سياق الحدث لا خارجه، باعتبار أن ما يعيشه أحداثا صنعت في التاريخ ولا علاقة لها بالدين والقداسة، وتلك مناسبة وجب ترشيدها لما ينفع البشرية في دينها ودنياها. *كلية الآداب بني ملال