ذات امتحان بكالوريا -منذ سنوات- وصلتني رسالة نصية قصيرة من فاس، يخبرني فيها أحد الآباء الغيورين، وكله حسرة على تقويض مبدأ تكافؤ الفرص؛ بتسريب رياضيات بكالوريا الشعبة العلمية، ربما ليلا، وحدوث ارتباك في صفوف الممتَحَنين، صباحا، جراء تداول الأسئلة على نطاق واسع. وقبل هذا بقليل، تتبعت، بحرفية مفتش سابق، بعض صفحات "فيسبوك" حيث تعرض تسريبات ما بعد الدقائق الأولى من دخول الممتحنين إلى قاعات الامتحان. لم تتح لي فرصة التأكد من صحة ما سُرب؛ لأنني ابتعدت كثيرا عن مجال عركْته على مدى سنين طويلة؛ مُكَلفا بإعداد المواضيع، مراقبة مراكز الامتحانات، ومترئسا لجان المداولات. في غياب السند المادي الذي يخول نقد استراتيجية وزارة التربية الوطنية في تحقيق الأمن الامتحاني الإشهادي، وهو من الأمن العام طبعا؛ اكتفيت بتصريح إنذاري لمسؤول عن الامتحانات في الوزارة، وقتها، يخبر الممتحَنين أن كل الإجابات التي ستقف لجان التصحيح على تطابقها مع ما يقترح في "فيسبوك" ستعتبر غِشا، تترتب عنه عقوبات؛ لا شك أنها العقوبات نفسها المقررة للغش، كما تفصلها المراسيم والمذكرات المعتمدة. يتضمن هذا التصريح، طبعا، أن تسريبات "فيسبوك" صحيحة، وأنها مرفقة، أحيانا، بمشاريع إجابات. ويعلم جميع المتتبعين أن الوزارة المعنية مهدت لكل هذا النزال الذي حصل ويحصل، بتحد رقمي؛ من خلال الإعلان عن اعتماد أجهزة إلكترونية للتشويش على الهواتف؛ وأكثر من هذا تحديد مواقع وجودها داخل القاعات، إن أصر بعضهم على الاحتفاظ بها، ضدا على القانون. هل نقف عند حدود الجانب اللوجستيكي، في استراتيجية الأمن الامتحاني الإشهادي، لنقول إن الخلل يكمن في الأجهزة الرقمية التي لم تُشغل، لأسباب ما؛ أم في العنصر البشري؛ إمَّا مُكلفا بالحراسة المباشرة، أو بأجهزة رصد الهواتف؟ هذا في ما يخص نشر المواضيع، المفترض أنه اعتمد تصويرا تم داخل قاعات الامتحان؛ من ممتحَنين توفر لهم الهدوء النفسي والوقت للتصوير والنشر؛ ربما في انتظار جهات إسناد خارجية، متخصصة في المادة، سبق التنسيق معها من أجل الإجابة والتصوير والنشر. ويظل الاحتمال واردا بأن تكون العملية برمتها قامت بها عناصر حراسة، منعدمة الضمير، ظلت محتفظة بهواتفها. وبمراكز الامتحان، عدا أطقم الحراسة المباشرة، هناك لجان أخرى تتولى مهام إدارية مرتبطة بالامتحان، ويكون في وسعها الاطلاع على المواضيع، مباشرة بعد فتح الأظرفة. وقبل كل هذا، هناك مسار آخر، بحلقات تبدو محكمة، تقطعه المواضيع، بدءا من تسليمها، قصد الطبع، لإدارة الأكاديمية، من طرف المفتش المكلف بالمواضيع، بناء على عمل لجان متخصصة، إلى حين وصولها إلى مراكز الامتحان. التسريب المشار إليه لرياضيات الشعبة العلمية بفاس يقع ضمن هذا المسار؛ الذي شهد سابقا ما يمكن نعته اليوم بتسريبات كلاسيكية تجاوزها "فيسبوكيون"، كما تجاوزت الهواتفَ هذه الأجهزة التواصلية الدقيقة، التي أضحت الشرطة تتعقبها، اليوم، في أسواق غشاشي البكالوريا. أما نشر الإجابات فقصة أخرى لأنها تتطلب، إضافة إلى المهارات الرقمية المطلوبة، تخصصا في المادة، مما لا يتوفر غالبا إلا لأساتذتها ومفتشيها، مع الأخذ بالاعتبار، درءا للشبهة، انشغالهم بالحراسة والملاحظة وقت الامتحان. إن الأمن الرقمي العام أصبح يشكل تحديا عالميا حقيقيا، تعاني منه كل الدول، وكل المؤسسات، حتى البالغة الحساسية، مهما تطورت استراتيجية الحماية وبرمجياتها؛ ومن هنا عبثية استثمار وزارة التربية في أجهزة التشويش والكشف عن الهواتف في محيط تعليمي، إداري وتلاميذي، طافح بالثغرات، ولا أدل على هذا من حكاية الجهاز غير المشغل، والأستاذ الذي شهد بهذا، وفي الوقت نفسه، شهد أنه رأى هواتف تُظهر أعناقها، حينما استدبر جهازٌ أريد له ألا يرى شيئا. لعل الأستاذ، هنا -وقى نفسه الكثير من صداع الرأس، وربما حتى من هواجس طعنة سيف محتملة- معذور، خصوصا وهو يرى حتى الجهاز الذكي التزم الصمت. وحتى لو ارتقى بحراسته إلى ما هو مقرر قانونا، وأنجز تقريرا، فهو لا يضمن أنه سيفعل إقليميا وأكاديميا؛ وفي الوقت نفسه، لا يضمن أن يكون الأمن بجانبه، حينما يغادر المركز. وحينما يتعلق الأمر بالأستاذات، وهن معذورات، فإن جميع الحواس تتعطل، ليرقص الغش الرقمي، وحتى الورقي المتجاوز، على هواه. في وسط هذه بعض ملامحه التي يعرفها الجميع، يغدو كل استثمار في الذكاء الرقمي الأمني مجرد هدر للمال العام. الغش في البكالوريا، وغيرها من الامتحانات، حلقة ضمن منظومة ثقافية كبرى، تشتغل في اتجاهات متعددة لتنتج، في النهاية، المواطن الغشاش الذي يمتعه المجتمع بكل أوصاف الشطارة، الدهاء والفروسية؛ وما شئت من أوصاف. لا مناص من المقاربة الأمنية، لكن، يجب الارتقاء بها من مجرد التحدي الإلكتروني للممتحنين إلى مقاربة تشاركية، تساهم فيها أجهزة الوزارة، والأجهزة الأمنية الأخرى، وخصوصا التي أبانت عن كفاءة كبيرة في محاربة الخلايا الإرهابية النائمة واليقظة. أليس تخريب البكالوريا، من إشاعة الفتنة العامة التي يشتغل عليها الإرهاب؟ طبعا ليس الحل في أطقم من الشرطة، بل في قوة الردع القانوني الحقيقي؛ المعزز بثقافة مجتمعية لا تهادن الغش، وتعتبر أن الحراسة الصارمة بطولة حقيقية، يجب إسنادها والتنويه بها. لكن، قبل هذا كله، لا بد من الاشتغال على مضامين البرامج التعليمية في اتجاه الابتعاد بها عن اجترار المعارف واستظهارها في أوراق الامتحان، ثم نسيانها. إن بناء آليات التفكير الاستنباطي الاستدلالي الاستقرائي أهم من المعرفة المدرسية في حد ذاتها. المنهج قبل العلم. ويحتاج هذا كله إلى جهود واستثمارات، لكنها، وبكل تأكيد، ستكون أفضل من الاستثمار في نزال رقمي محدود النتائج.