غيرت تجربة الشراكات الرياضية التي يقوم بها مستثمرون ومقاولون مع المؤسسات التربوية بطنجة جزءا كبيرا من خارطة شوارع المدينة، كما وفرت لشباب المدينة متنفسا رياضيا. ملاعب كرةِ قدمٍ إسمنتية أو معشوشبة، مجهّزة بشكل كامل، بما في ذلك الإضاءة، كانت تبدو أمرا بعيد المنال، إذ كان عدد الملاعب التي يمكن أن يمارس فيها الشباب العاشق لكرة القدم هوايته يكادُ يعدّ على أصابع اليد الواحدة..المتنفس الوحيد كان شاطئ طنجة الرملي، وملاعب بضع مؤسسات تعليمية، كانت تسمح أسوارها المهدمة بالتسلل إليها، واللعب في ملاعبها في غفلة من الحراس أو باتفاق معهم. معاناةٌ وإرهاصات تحسّن يقول "محمد .ش"، البالغ 38 سنة، عن مرحلة التسعينيات: "أهم وأشهر ملعب في المدينة كان حينها ملعب مؤسسة "مولاي يوسف التقنية" الإسمنتي. وعندما أقول ملعب فلأن أرضيته كانت جيدة، أما التجهيزات فلم تكن أمرا واردا، بما في ذلك أعمدة المرمى وشبكته". ويواصل محمد، مقرّبا الصورة أكثر: "كنا نستيقظ فجرا ونسارع إلى الملعب، ونتسلق أسوار المؤسسة، نحن والفريق المنافس، كي نستطيع حجزه قبل أي فريق آخر؛ وأحيانا كنا نجد أن هناك من سبقنا رغم ذلك..كنا نصنع المرمى بالأحجار أو بملابسنا.. وبعد كل ذلك من الممكن جدا أن يسمع مدير المؤسسة ضجيجنا فيرسل حارس المؤسسة لينهي كل شيء". في أواخر التسعينيات، بدأت بعض المؤسسات التعليمية تتعامل بشكل شبه ودّي مع أفراد يقومون بكراء الملاعب أيام السبت والأحد لشباب الأحياء، بأثمنة تبدو حاليا خيالية. أحد الممارسين آنذاك، "عبد الرحيم.ا"، يشرح كيف كان يتم الأمر قائلا: "بكل بساطة كنا نتوجه إلى الشخص المسؤول عن هذه الملاعب، ونسأله أن يحجز لنا في ساعة ما، وندفع له عربونا.. الأثمنة كانت مضحكة إذا ما قرناها بأثمنة اليوم؛ لكن ربما لأن الملاعب كانت مضحكة أيضا، إذ لا توفر الحدّ الأدنى من التجهيزات. الساعة الواحدة كانت تكلف الفريقين معا 30 درهما لا أكثر". ظهور ملاعب الشراكات منذ سنة 2000 تقريبا سيتغير الوضع، وستأخذ الأمور منحنى جديدا، عندما سيقرر أحد المستثمرين الاتفاق مع مؤسسة "ابن خلدون" الإعدادية على تجهيز ملعبها، بحيث يستفيد منه تلاميذ المؤسسة، بينما يستغله هو أيام السبت والأحد والعطل الرسمية، بكرائه لشباب الأحياء. الحدث أنهى معاناة شباب المدينة الممارس لكرة القدم المصغرة، إذ أصبح الحصول على ملعب لإقامة المباريات أيسر وأسهل، رغم أن الأسعار زادت قليلا، لكنها عموما لم تكن مرهقة لكاهل الممارسين. لم يكن الملعب كافيا، ولم يكن المستثمرون الذين سمعوا الخبر ليقفوا مكتوفي الأيدي، إذ بدأت بعد ذلك الشراكات تتوالى بين المؤسسات التعليمية والمستثمرين، لتغزو الملاعب المجهزة الإسمنتية، ثمّ المعشوشبة اصطناعيا، جلّ مؤسسات المدينة. يقول أحد المشرفين على هذه الملاعب: "يقضي الاتفاق بأن يقوم المستثمر بعدة خدمات لفائدة المؤسسة، مقابل السماح له بتجهيز الملعب، والاستفادة منه في العطل، وكذا في المساء، بعد انتهاء الحصص الدراسية، تحت إشراف نيابة التعليم لطنجةأصيلة. الخدمات تختلف من مؤسسة إلى أخرى، وتتنوع بين الصباغة وبناء الأقسام ودورات المياه وتجهيز مستودعات الملابس، علما أن الإضاءة الليلية يتحمل نفقتها المستثمر نفسه، وليس المؤسسة. هذا يعني أن المؤسسة توفر للمستثمر الملعب فقط.. أو بالأحرى مكان الملعب". في مؤسسة "أبي العباس السبتي" الثانوية، الكائنة بحيّ ابن بطوطة، يوجد ملعبان مصغران إسمنتيان، وآخر معشوشب متوسط الحجم. يقول "أنور .م"، الذي جاء للتوّ لخوض إحدى المباريات: "في السابق كان هنا ملعب واحد، ثم تم تجهيز آخر، قبل أن يتم تحويل قطعة أرضية ثالثة إلى ملعب مجهز بالعشب الاصطناعي. وطبعا كل الملاعب مجهزة بالكشافات الضوئية؛ لأننا لا نلعب إلا ليلا، بعد انتهاء الحصص الدراسية، ما عدا أيام العطل". وعن الأسعار يقول أنور: "بالنسبة للملعبين الإسمنتيين سعر الساعة الواحدة هو 160 درهما، يدفعها الفريقان المتنافسان معا، و300 درهم بالنسبة للملعب المعشوشب، الذي يسعُ 8 لاعبين من كل فريق. صحيح أنها أسعار مرتفعة، لكن لأننا نمارس بشكل أسبوعي فقط، ونتقاسم الأداء، فإنها تبقى عموما مقبولة، خصوصا أمام ما نربحه من ورائها صحيا ونفسيا". أحياء هادئة بظهور ملاعب الشراكات، أصبحت مجمل أحياء مدينة طنجة، الشعبية خصوصا، هادئة عموما، إلا من الضجيج الاعتيادي، إذ لم تعد تخترقها ملاعب كرة القدم كما في السابق. يقول اسماعيل .ل، أحد المسنين القاطنين بحيّ كاسارابارطا الشعبي: "في الماضي لم نكن ننعم بالهدوء إطلاقا، إذ لم يكن للأطفال والشباب أي مكان ليمارسوا فيه كرة القدم، ما دفعهم إلى اتخاذ أزقة الحي ملاعب لهم. يمكنك أن تتصور حجم الضجيج التي تحدثه مباراة داخل دروب حي شعبي.. كان ذلك جحيما حقيقيا". "حتى إن طردتهم أكثر من مرة فإنهم يعودون"، يقول اسماعيل، مضيفا: "ثم إنك في قرارة نفسك تعرف أنهم لن يستطيعوا الذهاب إلى أي مكان آخر، بل ربّما سيدفعهم المنع من اللعب إلى البحث عن أمور أسوأ". وعمّا أصبح عليه الوضع الآن يقول اسماعيل: "الحقيقة أن استفسارك هو الذي جعلني أنتبه إلى هذه النقطة، فقد أصبح الحيّ هادئا، ولم يعد أحد يلعب فيه الكرة. الأطفال والشباب الذين كانوا يلعبون هنا أراهم من حين إلى آخر يرتدون ألبسة رياضية ويتوجهون إلى الملاعب المجهزة". وشجعت هذه الملاعب أيضا الكثير من شباب طنجة على التوجه نحو الجارة إسبانيا للممارسة مع فرق في كرة القدم المصغرة، وبعضهم حققوا نجاحا لا بأس به. عشرات المباريات تقام في ملاعب الشراكات يوميا، ابتداء من الساعة السابعة مساء، وحتى الثانية عشرة ليلا، ما سمح للمئات، وربما الآلاف، من شباب طنجة، بممارسة هوايتهم الأثيرة في فضاءات مناسبة، ربّما لولا وجودها لكان للمخدرات والانحراف كلمتهما العليا.