طوال الوقت لم يبد "أولاف شولتس" بأي رأي يمكن أن يصنع به الحدث أو يكون له صدى قصد تحريك الماكينة الصحفية الألمانية بجرائدها المتعددة والمهيمنة على الرأي العام التي فاقت ال 500 وبرامجها التليفزيونية التي تجاوزت 489، حيث أكثر من 100 محطة تليفزيونية تحاول جلب واستقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، على سبيل المثال محطة التليفزيون "آ إير دي"، لوحدها توفر 23000 فرص شغل قارة ودائمة وتساهم بصفة جدية، وموضوعية وبعيدة كل البعد عن البروباكاندا في تنوير الرأي العام الألماني ب 11 محطة تليفزيونية و 55 محطة راديو، كما تدير ميزانية قدرها 63 مليار درهم. ولكن في الآونة الأخيرة خرج شولتس عن صمته وعجت المنابر الإعلامية الألمانية بتصريحاته، الموفقة أحيانا وأخرى لا تخرج عن المباحث التقليدية والعموميات، رسالة شولتس واضحة ولا غبار عليها، حيث كل من سأله عن برنامج حكومته كان رده: "الفعالية"، كلمة مشفرة، وإن دلت على شيء فهي تدل على "الكفاءة، ثم الكفاءة"، وهذه هي الفكرة الأساسية التي يريد أن "يزرع" في ذهن مواطنيه قبل تربعه الفعلي على رئاسة جمهورية ألمانيا الاتحادية، في إحدى المقابلات الصحفية سئل عن إجبارية التلقيح العامة، رفع أصبعه الأيمن وقال: "من الضروري أن تصدقني، هذا ما سنقوم به في المستقبل القريب"، ولو كان يرفض إجبارية التلقيح العامة من قبل. تدهور الحالة الصحية في ألمانيا لم تترك له أي هامش للتلاعب بالأقوال، كمحام سابق من أسهل التمارين، يمكن اعتبار الوضع الآن بالكارثي في ألمانيا، لأنه اضطرت أن تتأقلم ليس مع "أزمة عابرة للحدود" فقط ولكن مع "حالة دائمة ومستعصية"، هناك إجماع بين جميع الفرقاء السياسيين الديمقراطيين وعلماء الفيروسات حول كيفية الخروج من هذه الحلقة المغلقة، من حجر صحي لحجر صحي جديد ومن موجة ثانية وثالثة إلى رابعة وخامسة، حيث الكل ينصح بتلقيح الشعب الألماني عن كامله، على الأقل %90 حسب الأخصائيين الألمان في علوم الأوبئة، والإجبارية ستتم بفرض غرامات مالية كما حصل في النمسا التي شرعت في تسقيف الغرامة التي يمكن أن تتجاوز في بعض الأحيان أكثر من 3 ملايين سنتيم. حسب الإخصائيين إجبارية التلقيح العام يحمي حياة عامة الناس وحرية المجتمع، لأنه لم يرى العالم مثل هذه الجائحة منذ أكثر من 100 سنة، وليومنا هذا لا زالت طائرات الجيش الألماني تنقل الحالات الحرجة من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب نظرا لشح أسرة الإنعاش، حتى انتفض البروفيسور "لوطار فيلار"، رئيس معهد روبيرت كوخ، كباستور في فرنسا، في وجه ساسة بلاده: "ما هو عدد الأرواح التي يمكن لنا أن نتقبل حتى نتخذ بالإجراءات الازمة؟" يقصد بالإجراءات الضرورية التلقيح الإجباري العام، في تقديري نفد "رصيد المصداقية" للساسة الألمان، هل يتمتعون بالجرأة الازمة بغية استرجاعها؟ حبذا لو تحققت هذه الأمنية، لأن المصداقية تعتبر من خاصيات الديمقراطية الحقة. لا زال شولتس مشتغلا بصقل صورته وهندامه، غالبا ما يستغني اليوم عن الكرافتة ويفتح قبة قميصه بعض الشيء حتى لا يلومونه أبناء جلدته بالكلفة والسلوك غير اللبق، لأن جل الألمان يفضلون الإنسان المتواضع، الوقور ولا المتعجرف أو المغرور، وهذا هو سر نجاح الدكتورة "آنكيلا ميركيل" التي حكمت البلاد بحنكة كبيرة، اتزان وتفان حقيقي لمدة 16 سنة، في البداية كان يميل شولتس للسمنة والأطباق الشهية، اليوم يفضل العدو الريفي والتجديف كهواية، ليس كوزير الخارجية السابق في حكومة "كيرهارت شرودار" الذي كان يتناوب برنامجه الغذائي بين السمنة المفرطة والرشاقة البدنية، شولتس 2021 من نصرة الانضباط والأكل السليم. حياة الرجل الألماني القوي لم تعرف فضائح مالية أو أخلاقية كان ضمن المتورطين فيها شخصيا، ولا خصومات أو مشادات كلامية، تجنب دوما تأجيج المشاعر والصراعات الواهية، كما اتخذ العقل كبصلة له عوض العاطفة، النرفزة أو الغل، وإذا عرفت الدبلوماسية المغربية كيف تلعب ورقة الطاقات المتجددة ستربح الرهان قصد المزيد من الاستثمارات الألمانية في هذا المجال، لأنه لا محالة، بعد الخلاف سيحل محله الصلح، بشرط أن يكون مخاطبون الألمان المغاربة في مستوى الحدث وعلى دراية جيدة بالطقوس والحساسيات الألمانية، اللغة، الثقافة، الحضارة، السياسات العمومية، التركيبة السكانية، النموذج الفيديرالي، بأبجديات المعاملة اللبقة والسلسة مع هذا العملاق الأوروبي، كما يتوجب نسج علاقات وجسور ود وتقدير مع جميع رؤساء الأحزاب السياسية الديمقراطية الممثلة في البرلمان الألماني لا من "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (إيس بي دي)، "الإتحاد المسيحي الاجتماعي " (تسي دي أو/تسي إيس أو)، "تحالف 90/الخضر" (دي ڭرونه)، "اليسار" (دي لينكه)، "الحزب الديمقراطي الحر" (إيف دي بي) وبالأخص مع المجتمع المدني الذي يعتبر قوة ضاربة في ألمانيا، لأن أكثر من 23 مليون شخص منخرط في العمل الجمعوي في ألمانيا، يعني الربع من ساكنة البلاد، والحكومة الألمانية لا تمتثل إلى الضغوطات الخارجية ولكن لضغوطات وتطلعات شعبها، على سبيل المثال، أراد "أولاف شولتس" أن يعين شخصية معينة من المقربين كوزير للصحة عوض البروفيسور "كارل لاوطارباخ"، ولكن انتفض الشعب الألماني في وجهه واضطر أن يتراجع عن هذا القرار غير اللائق نظرا للحملة الشرسة التي قامت بها المئات من الجرائد، الإذاعات، محطات التليفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي لصالح البروفيسور الكفء، النزيه والصادق. كما يتوجب قبول الدعوات والانخراط الفعال في نشاطات وسائل الاعلام، لا من صحافة، محطات تليفزيونية ألمانية ومناظرات المجتمع المدني قصد شرح، دعم والدفاع عن حقوق المغرب التاريخية والمشروعة في الشمال والجنوب، وحبذا لو استعانت الدبلوماسية المغربية بالجالية المغربية التي تشكل مشتل غني وخصب لدعم بلد منشأ الآباء والأجداد، واستثمار 7 مليار درهم لألمانيا أخيرا في إفريقيا الجنوبية، عدو الوحدة الترابية التاريخي، في قطاع التغيرات المناخية ليشكل انتقام مبطن لما يحصل الآن بين المملكة المغربية والجمهورية الألمانية، لأن المغرب أجدر من أي دولة إفريقية للاستقبال هذه الاستثمارات الضخمة نظرا لقربه، لموقعه الجيو استراتيجي، استقراره السياسي وكفاءاته، خلاصة القول: من الواجب كسب ثقة ودعم ألمانيا، ودمجها في "فريقه"، لأن العلاقات الاقتصادية القوية هي التي تؤطر التعاون المتبادل، الرخاء وتسوية الخلافات. لا يحب شولتس أن يتكلم عن عائلته أو حتى عن نفسه، ما نعرف اليوم هو أنه له أخ يمتهن الطب وآخر مدير شركة، الملفت للنظر أنه لا يلفت النظر، بدون هالة ولا رموز السلطة أو المرتبة، يفضل أن يتعامل مع أي مواطن ألماني كأيها الناس، لا فوق لا تحت، لا غالب لا مغلوب، لا صراعات، لا معارك دانكيشوطية، كيف يحصل اليوم مع الجارة الشرقية، والأعداء بالوراثة، ألمانياوفرنسا اضطرا طي خلافاتهم والامتثال إلى الأمر الواقع بغية الرفع من المبادلات بين البلدين، الازدهار الاقتصادي والمعرفي. يمكن اعتبار شولتس قطعة من قطع "المخزون السياسي الألماني"، كان في السابق كاتب الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، في هذه الحقبة من الزمن كان يتكلم ولا يقول شيء، حتى حزبه عامله بجفاء وكان مجحفا في حقه، بالأخص لما كان يرشح نفسه في الانتخابات الحزبية لكي يفوز ببعض المسؤوليات داخل الحزب، ولكن لما تقلد منصب وزير الشغل في 2007 وعرف العالم آنذاك أزمة مالية خانقة تمكن من تفجير طاقاته ومهاراته التدبيرية، في 2011 تقلد منصب العمدة الأول لمدينية هامبروك أين كان يصول ويجول كالملك "فرانتس الثاني"، في 2018 وُكل له منصب وزير المالية ونائب المستشارة آنكيلا ميركيل، وهذا لا يدل أن شولتس لم يذق من كوب العجرفة وغرور الأنا والسلطة، فضيحة "وايار كارت" التي خسر إثرها مستثمرون صغار أكثر من 300 مليار درهم و "فضيحة فاربوك كوم إيكس" والحرائق وعمليات التخريب التي واكبت "قمة مجموعة العشرين" في هامبورك سنة 2017. في هذه اللحظات الحرجة أدرك شولتس أن التغطرس والعنجهية عامل تشويش قد يسيء لتسلق سلم السلطة، الدرس الذي استوعبه جيدا وحمله اليوم لسدة حكم أحد أكبر اقتصادات العالم، حيث تحتل ألمانيا المركز الرابع في ما يخص الناتج المحلي الإجمالي، كما جاء على لسان المفكر الصيني الحكيم "كونفوتسيوس": "التعلّم بدون تفكير عُجب، والتفكير بدون تعلم خطير".