الحوار الذي تنفرد "الحياة" بنشره، ضمن غلاف هذا العدد، يكتسي أهمية بالغة. ففضلا عن كونه لم يسبق أن نُشر، منذ إجرائه قبل 46 سنة، فإن الشخصية التي أجري معها، والسياق السياسي الذي جرى فيه، والمضامين التي يحملها، تجعل منه وثيقة نفيسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فما تختزنه هذه الوثيقة من معلومات وتحاليل وأفكار ومطالب وتصورات يفيد في رسم صورة واضحة عن مغرب ما بعد الاستقلال، مثلما ينفع في فهم مغرب اليوم. الحوار، الذي أجري سنة 1966 مع القيادي الاتحادي الراحل عبد الرحيم بوعبيد، لم يُنشر بعد أن تعرضت جريدة "ماروك أنفورماسيون" للمنع، تزامنا مع حالة الاستثناء، التي فرضها الملك الراحل الحسن الثاني. ولعل القيمة البالغة التي يحظى بها هذا الحوار هي التي جعلت الأستاذ أحمد بنكيران، مدير الجريدة الممنوعة، يحتفظ به طول هذا الوقت. أجري الحوار في مرحلة سياسية شهدت أحداثا كان لها أثر بالغ في تحديد مسار المغرب المعاصر. وهي مرحلة تؤرخ لتكريس مغرب الاستبداد والحكم الفردي المطلق. ففي سنة 1965، شهدت الدارالبيضاء، أكبر مدن المغرب مساحة واقتصادا وعمالا وسكانا، أحداث 23 مارس، التي ووجه فيها المحتجون بالرصاص الحي على الأرض ومن الجو، فمات من مات، واختطف من اختطف، وعذب من عذب. وفي تلك السنة، اختطف القائد والزعيم الاتحادي المهدي بن بركة من قلب العاصمة الفرنسية باريس، وتم اغتياله بعد تعذيبه. وعُلم منذ ذلك الوقت أن الدولة المغربية متورطة في هذا الاغتيال السياسي، الذي استهدف معارضا سياسيا، من خلال تورط كبار مسؤوليها في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. وهي القضية التي مازالت مفتوحة إلى اليوم، ولم تنفع في إغلاقها "حكومة التناوب الديمقراطي"، ولن تنفع في ذلك الحكومة الحالية، التي توصف ب"حكومة التناوب الديمقراطي"، التي مازالت تنتظر تنصيب البرلمان. حين نقرأ هذا الحوار، نتأسف على المغرب الذي ضيع كل هذه السنوات والعقود من عمره. لقد كان المغرب يحظى بنخبة سياسية انتبهت، منذ البداية، إلى مخاطر الاستبداد والديكتاتورية، وجهرت بالمناداة بالديمقراطية، باعتبارها الخيار القادر على معالجة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالمغرب. كان ذلك منذ أكثر من خمسة عقود. لم تكن تلك النخبة، التي كان الراحل عبد الرحيم بوعبيد أحد روادها، حالمة أو طوباوية، وهي تجهر بمطالبها السياسية والاقتصادية، بل كانت تمثل النموذج الواقعي في العمل السياسي، حينما كانت تستحضر واقع المغرب الخارج لتوه من استعمار كرس وضعا ازدواجيا على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والإدارية... لقد تجسدت واقعية تلك النخبة في قدرتها على التعامل مع ذلك الوضع. لم تكن تتهرب من المشاركة في تسيير شؤون البلاد، لكنها في نفس الوقت كانت تحرص على إعمال المبادئ الديمقراطية التي تشترط أن تكون هذه المشاركة عبر صناديق الاقتراع. وفي هذا الشأن، قال الراحل عبد الرحيم بوعبيد قبل 46 سنة، وبالحرف: "لابد من تشييد مؤسسات جديدة بعد مراجعة الدستور والقيام بانتخابات حرة... الحكومة الأكثر ملاءمة للواقع المغربي هي الحكومة التي تتمخض عن صناديق الاقتراع والأكثر تمثيلية للشعب. جميع التشكيلات الحكومية جرى تجريبها حتى الآن، باستثناء التجربة الحكومية الديمقراطية الحقيقية التي لايزال المغرب لم يخض في تجربتها بالطريقة الصحيحة. ومن هنا أقول: لماذا لا نخوض في هذه التجربة الديمقراطية الآن لكشف حقيقة البلد وتصحيح العديد من المغالطات التي لازال البعض يعيشها". تصوروا ما الذي كان سيكون عليه المغرب لو كان خاض منذ ذلك الوقت في هذه "التجربة الحكومية الديمقراطية الحقيقية" التي كان ينادي بها عبد الرحيم بوعبيد قبل 46 عاما! لقد ضيع المغرب أربعين سنة، هي فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني بالتمام والكمال. ولم ينتبه الملك الراحل إلى خطورة الوضع إلا خلال السنوات الأخيرة من عمره، حين أعلن، في ما يشبه التحذير، أن المغرب مهدد ب"السكتة القلبية"، واضطر إلى أن "يقاوم" بكل ما تبقى له من قوة من أجل إشراك المعارضة "الاتحادية"، في الحكومة، بعدما كان استعمل كل الوسائل لإبعادها عن الحكومة وعن المشاركة في تدبير الشأن العام، كما يتضح من حوار عبد الرحيم بوعبيد الذي يكشف أن الملك الراحل كان يسعى فقط إلى ربح الوقت. لكن الوقائع اللاحقة ستؤكد أن "التاريخ" أكبر من "الوقت". فقد ينجح البعض في ربح الوقت، لكن لن ينجح بالضرورة في ربح التاريخ. كان بإمكان المغرب ألا يكون، اليوم، معنيا بمطالب وثورات "الربيع العربي"، لو تفاعلت الدولة حينها (دولة الحسن الثاني) مع مطالب النخبة السياسية، وسارت في طريق الديمقراطية. لقد قرر الملك الحسن الثاني أن يحكم قبضته على الدولة والسلطة بالقوة والحديد، فكانت النتيجة سنوات الرصاص الذي مازالت تطاردنا كوابيسه إلى اليوم. افتتاحية "الحياة" ل 19/01/2012 تنشر في "كود" باتفاق مع الناشر