كشف قرار جماعة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة بالانسحاب من حركة 20 فبراير عن متانة التحالف بين قوى اليمين وخاصة اليمين المتطرف في المملكة. خلافا لليسار المشتت يكون اليمينيون دائما في الموعد، مهما تباعدت منطلقاتهم الإيديولوجية، في تعبير عجيب على مدى استيعاب اليمين لمبدأ البراغماتية الذي يفترض أنه أقرب إلى أذهان اليساريين. بانسحابهم اليوم من ساحة الاحتجاجات يكون العدليون قد أنهوا المهمة التي انخرطت فيها كافة مكونات اليمين كل من موقعه وبأسلوبه. المهمة ليست سوى استمرار حزب يميني في قيادة الحكومة بعد حزب الاستقلال. حكومة تملك صلاحيات هي الأوسع في تاريخ المغرب المستقل. ليس أقلها أن رئيس الحكومة يملك صلاحية التوقيع بالعطف على المراسيم التي يصدرها الملك.
ياسين والمغراوي والفيزازي وشباط سذاجة الخصوم وضعف مصداقية جزء كبير منهم في الصف "الحداثي"، وحالة اليتم التي عاشها زبناء اليسار بعدما آل إليه الاتحاد الاشتراكي، وشروط الربيع العربي، كلها عوامل فسحت المجال أمام المشروع اليميني ولم يبق أمام أطرافه سوى المتابرة للضغط على خصومهم داخل الدوائر العليا.
العدل والإحسان في الشارع، السلفية الجهادية في السجون وفي مسيرات حركة 20 فبراير، الفيزازي في المواقع الالكترونية، المغراوي في دور القرآن والمساجد، حميد شباط على صفحات الجرائد في الأوقات المختارة بعناية وبالتصريحات المثيرة حول "المؤامرة العقلانية" التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين في بلادنا (الرجل اتهم البام بأنه حزب عقلاني ضد الإسلام!)، فضلا عن امحمد الخليفة وحرصه البريء جدا على "لغة الضاد"!
النتيجة: أسلمة الدولة في اللحظات الأخيرة لتعديل الدستور. انسحاب العدل والإحسان من الشارع الذي كان يهدد بنكيران في الأمس القريب أنه سينزل إليه إن لم يفز حزبه بالمرتبة الأولى في الانتخابات. فتح دور القرآن دون أدنى رقابة على ما يلقن داخلها للأطفال من تعاليم ليس أبشعها أن الاختلاط حرام. اختفاء بوشتى الشارف دون أن يخضع للخبرة الطبية حتى تتبين صحة ادعاءاته بالتعرض للتعذيب. هدوء غريب في سجون السلفية الجهادية. عودة الحركة الشعبية إلى عائلتها الطبيعية بعد تحالف اتضح أنه فرض عليها.
ثم انضمام ضيف مفاجئ لحكومة اليمين يفترض أنه من عائلة اليسار. المثير أن هذا الضيف المفاجئ ترك عائلته المفترضة وفاء لقيمة في غاية الأهمية عند أهل اليمين، ألا وهي "العائلة". هذا على الأقل ما نفهمه من قيدوم الصحافيين عبد اللطيف جبرو، الذي أوضح لجريدة "أخبار اليوم" مؤخرا أن انضمام التقدم والاشتراكية لحكومة الإسلاميين ليس سوى "ترجمة لاتفاق قديم بين إسماعيل العلوي، الرئيس الشرفي للحزب، وخاله الراحل عبد الكريم الخطيب مؤسس العدالة والتنمية".
لا شك في أن كل ذلك تعبير عن طموح سياسي مشروع مهما اختلف مع مضمونه، لكن المثير حقا هو مدى السهولة التي ظهر بها تحالف اليمين في الوقت المناسب ومدى الانسجام الذي يجمع مكوناته. الخلاف الوحيد بين مكونات هذه العائلة الذي ظهر بين حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية لا يعدو أن يكون حول توزيع الحقائب الوزارية. علما أن ما يفرق أفراد هذه العائلة من الناحية الإيديولوجية أكبر بكثير مما يفرق بعض أطراف اليسار على هذا المستوى.
مقابل هذا الانسجام المثير للإعجاب، يبذل اليساريون يوما بعد يوما مجهودات جبارة لتعميق الهوة التي تفصل بعضهم عن بعض، حتى أن بعضهم مستعد لاسثتمار كل طاقته في حروب (افتراضية في الغالب) ليبين أن "الدستور الديمقراطي" هو مطلب حركة 20 فبراير وليس "الملكية البرلمانية"، وكأنهم يملكون جيشا من الأنصار مستعدين لاحتلال الساحات العمومية في أية لحظة، أو كأنهم قادرون على تعبئة جيوش الموظفين والعمال والطلبة في نقابات قادرة على شل الحركة في البلاد حتى يرضخ المخزن لهم!
اليسار السلفي المشتت عندما عين الملك الراحل الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول في حكومة التناوب، أبدع مجموعة من اليساريين داخل وخارج الاتحاد الاشتراكي في تعقيد مهمته مساهمين بذلك في إفشالها. سواء كان ذلك عن قصد وبسوء نية أو عن غير قصد وبحسن نية تبقى النتيجة واحدة: اليسار ساهم موضوعيا في إفشال تجربة التناوب ووجد نفسه –موضوعيا مرة أخرى- في خدمة مصالح اليمين أو "المركب المصالحي" كما سماه عبد الرحمان اليوسفي في محاضرة بروكسيل الشهيرة سنة 2003.
طبعا لا يعفي هذا المعطى اليسار المشارك من مسؤوليته الكبيرة في الفشل، بما في ذلك الفشل في تدبير العلاقة مع اليسار المعارض آنذاك. كما لا يقلل من وجاهة حجج اليسار المعارض لذلك المسار. غير أن السؤال الذي يمكن أن يطرح اليوم هو: هل كانت معارضة حكومة اليوسفي وشق صفوف اليسار الاختيار الأمثل لتحقيق هدف الدستور الديمقراطي الذي عارض بسببه يساريون حكومة التناوب؟ أم أن البراغماتية كانت تقتضي حينها دعم المشاركين وتقوية مواقعهم في المجتمع (النقابة والشبيبة والصحافة) حتى إذا جاءت انتخابات 2002 يكون اليسار أقدر على فرض تطبيق المنهجية الديمقراطية؟
بعد 15 سنة على دستور 96 يتضح جليا أن اليسار المعارض لم يراكم سوى الفشل. في عز الربيع العربي وحركة 20 فبراير اتضح أن قوة اليسار المعارض لا تتجاوز الشعارات. من المؤسف فعلا أن ينتهي الأمر بفصائل هذا اليسار (وليس فقط النهج الديمقراطي كما يروج لذلك إعلاميا) إلى البحث عن كل المبررات المتناقضة مطلقا مع مرجعيتها ومنهجيتها المفترضة في التحليل، لتشرعن تحالفها مع جماعة العدل والإحسان الخرافية. تحالف تجسد فعليا على أرض الواقع على مدى أشهر إلى أن انسحبت الجماعة من حركة 20 فبراير، مهما اجتهدت فصائل ذلك اليسار في إنكاره.
قد يكون للجانب النفسي والنرجسية التي تميز بعض أطراف اليسار دور في تفسير هذه المفارقة، كما يمكن العثور على تفسير آخر في منهجية التفكير التي تتولد عنها مواقف اليسار. قبل الربيع العربي وأثناءه وبعده وقبل انتخابات 20 نونبر وبعدها يجد المتتبع نفس المطالب ونفس الشعارات لدى فصائل اليسار الراديكالي، وكأن شيئا لم يحدث. الواقع وما يتضمنه من موازين قوى وتحولات لا يهم بقدر ما تهم النصوص المؤسسة التي بنيت على أساسها المطالب أول مرة في سنة 70 بالنسبة للبعض وسنة 84 بالنسبة للبعض الآخر وسنة 96 بالنسبة لفريق ثالث. بقدر ما يكون المغراوي براغماتيا فيتخلى عن سلفيته التي تحرم نصوصها الأحزاب والانتخابات والديمقراطية فيحث أنصاره على التصويت لصالح العدالة والتنمية، بقدر ما يظل اليسار الراديكالي سجينا لأصوليته التي لا ترى أي معنى للمساهمة في احتلال مساحات جديدة داخل البرلمان ما دام الدستور "غير ديمقراطي".
السلفية تعمي البصيرة أحيانا إلى أن تفصل صاحبها عن الواقع نهائيا، فترى مناضلا من قيمة وحجم محمد الساسي يبرر مقاطعة الانتخابات بعزوف المواطنين، ثم يؤكد أن حزبه سيستمر في دعم حركة 20 فبراير. أي أنه يعترف ضمنيا بعجز حزبه عن تعبئة المواطنين للمشاركة والتصويت عليه، ويطمح لأن يعبأهم للتظاهر في الشارع! منطق اليسار الراديكالي هذا هو "منطق الاسم"، كما يشرحه المؤرخ عبد الله العروي في "مفهوم العقل"، مقابل منطق "الفعل" الذي يحكم سلوك اليمين.
اليمين البراغماتي الموحد حين كان عبد الرحمان اليوسفي يقود محاولة لاختراق جدران المحافظة داخل الدولة ومن خلالها محاولة زعزعة مواقع المحافظة داخل المجتمع، نفسه أمام يمين منظم وموحد دون أن يجمع بين مكوناته أي رابط عضوي. الأرضية الوحيدة التي كانت تلتقي حولها مكونات هذا اليمين تتمثل في عرقلة أي خطوة يمكنها أن تساهم مستقبلا في دمقرطة الدولة والمجتمع. سواء كان المنطلق عقديا خالصا أو مصلحيا نفعيا لم تتردد مكونات اليمين يوما في مؤازرة بعضها حين تستشعر ما يتهدد عقائدها أو بمعنى أدق ما تخفيه هذه العقائد من مصالح مادية محض.
اللحظات الفارقة أكدت أن هذا هو الاصطفاف الحقيقي في الدولة والمجتمع المغربيين. تقاطب ثنائي حاد بين قوى تعتقد أن مصلحتها تتمثل في دمقرطة الدولة والمجتمع ما أمكن، وقوى أخرى ترى أن مصالحها لا يمكن أن تستمر أو تتحقق إلا بعرقلة كل ما من شأنه المساهمة في دمقرطة الدولة والمجتمع.
ما بين مكونات هذين الفريقين من تناقضات واختلافات وتضارب مصالح أحيانا ليست سوى تفاصيل قليلة الأهمية، مع فارق مهم: الفريق التقدمي يبرع دائما في الإعلاء من شأن التفاصيل ويخلص في التذرع بها لعرقلة أي تقارب ممكن بين مكوناته على قاعدة حد أدنى من المصلحة المشتركة. أما الفريق الثاني فينجح دائما بصمت وفي هدوء تام في ترك التفاصيل الخلافية جانبا والتركيز على الأهم.
لعل معركة مدونة الأسرة أوضح مثال على هذا الواقع. عندما بلغ الموضوع مرحلته الحاسمة لم تتردد قوى اليمين في الكشف عن تموقعاتها الحقيقية. حزب الاستقلال، الذي كان حليفا للاتحاد وجزء من حكومته، اصطف في الشارع إلى جانب حلفائه الطبيعيين: العدالة والتنمية والعدل والإحسان وكل مكونات الصف الإسلامي باستثناء جمعية البديل الحضاري. العائلة اليمينية جمعت كل أبنائها في تلك اللحظة، فلم يكن مفاجئا أن تخرج أحزاب أحرضان والعنصر وحتى الكوميسير عرشان في مسيرة 12 مارس 2000 المناهضة لحقوق المرأة.
طبعا ليست حقوق المرأة والحريات الفردية وحقوق الإنسان عموما مجرد ترف فكري، بقدر ما هي شروط لا محيد عنها لبناء نموذج يملك فيه أكبر قدر ممكن من الأفراد نفس الفرص لخلق وامتلاك الثروة. في حين تمثل قيم اليمين المناهضة لهذه الحقوق نموذجا مناقضا تماما، وضمانة لاستمرار تركيز الثروة في أيدي الأقليات ذات الامتيازات غير المشروعة بالضرورة (العائلة، الذكورة، القبيلة، الريع، الوجاهة المستمدة من الدين...).
انتهت معركة المرأة بما آلت إليه من توافق وجاءت محطة أخرى ظهر فيها اليمين في غاية التنظيم والانسجام. حل الاتحاد الاشتراكي أولا في نتائج انتخابات 2002، غير أن حليفه المفترض في الكتلة الديمقراطية فاجأ الجميع بمطلب "آ مولا نوبة". بسرعة شرع الاستقلاليون في إعطاء مضمون عددي لمطلبهم، فعقدوا تحالفا مع حزب أحرضان وإسلاميي العدالة والتنمية. لا شك أن أطرافا أخرى وحسابات أخرى كان لها دورها في ترتيب تلك المرحلة، ولا شك أن موقف الاتحاد آنذاك كان مخيبا للآمال، لكن الثابت أن اليمين بقيادة حزب الاستقلال كان مسؤولا رئيسيا عن تفويت فرصة أمام المغاربة للتقدم في اتجاه بناء الديمقراطية.
إذا صح أن هناك تيارا "حداثيا" داخل المخزن، فلا شك أن خطئيته الأصلية كانت وستظل صمته أو تشجيعه لما بذل في الخفاء من محاولات للمزيد من تفتيت اليسار حتى يصبح في النهاية أشبه بأية ملحقة إدارية من ملحقات وزارة الداخلية. مجريات الأحداث بعد 2002 أظهرت كم هي ساذجة فكرة إضعاف اليسار والتحكم فيه لمواجهة اليمين باسم "الحداثة".