أغرمنا في زمن مضى بالممثل السينمائي الهنديالشهير أميتاب باشون، وعرفه جمهور السينما فيالمغرب في زمن أوجها أكثر مما تعرفوا على ممثلينمغاربة أو عرب أو رؤساء دول وغيرهم. كانت أفلامهتعبر عن حجم معاناة البسطاء والفقراء والمظلومينوتغول المافيات والمفسدين. كانت لوحاته وهو يصرخضد الظلم، تنفس عن غبن عميق لدى مقهوري المجتمعالمغربي، مغبونون لم يجدوا طريقهم للانتقام منالقهر فوجدوها في اميتاب باشون الهندي، الذي تبعدبلاده عشرات الآلاف من الكيلومترات عن المغرب، لكنهافعلت مفعولها في حس الرعية وقتها. لازلت أتذكر فيلمه السياسي الشهير “انقلاب”. عرضعندنا في سينما المغرب بشارع بركان بمدينة أحفيرالحدودية ذات شتاء من سنة 1988، والذي اعتبرعرضه آنذاك حدثا تاريخيا بكل المقاييس، كاد أن يخلدرفقة الأيام المجيدة. إبن الخامسة عشرة آنذاك، كنت أيضا رفقة زملائي فيإعدادية سيدي محمد بن عبد الرحمان بالمدينة كباقيكل سكانها والمداشر المحيطة بها، من عشاق السينماالهندية وتحديدا البطل والفارس أميتاب باشون فيأهم أفلامه. السينما كانت هي المتنفس الوحيد والأوحد خارجالدراسة والعمل. مياومون ومأجورون وتجاروموظفون ورجال تعليم وغيرهم كان همهم هو تأمينمبالغ لشراء تذاكر السينما حينما كانت اجرة عملمأجور يومي لا تتعدى 25 درهما ليوم عمل. المنطقة هي جزء من الحدود مع الجزائر، حينها فعلالإعلام الجزائري فعلته العميقة في ثقافة ساكنةالمنطقة بما كانت تتميز به التلفزة الجزائرية منتجديد وحوارات سياسية وثقافية ودينية ومسلسلاتجديدة ورسوم متحركة غنية جدا، إلى جانب أفلامهوليوود وغيرها حديثة الصدور. وأذكر أننا تعرفناعلى الراحل المهدي المنجرة من خلال مواد عرضت عنهفي قناة الجزائر وتعرفنا عليه حينها بأنه مغربي، في ظرف زمني كانت التلفزة المغربية تعيش ما قبلتاريخ الإعلام رغم أن البصري أطلق حينها حملةالتلفزة تتحرك غير أنها لم تتحرك كثيرا. عودة إلى سينما أحفير، أتذكر أننا كأطفال غامرنا فيلعبة قمار، حتى نتمكن من جمع حوالي درهم ونصفلكل واحد منا للتمكن من الدخول للسينما. كانتبوابتها الوحيدة مكتظة ومزدحمة إلى الشارع. حضور غفير وصراع في الباب من أجل الظفر بكرسيمريح للمشاهدة. نحن الصغار لم نلج إلا في آخرالحشد، فكان لزاما بل و مفروضا أن نجلس في الرتبة”أ”، أي في مقدمة السينما حيث لا يمكنك مشاهدةشيء، فيظل عنقك ممدودا إلى أعلى بشكل متعبلينظر إلى شاشة كبيرة لا يرى منها الشيء الكثيربوضوح. الفيلم يروي قصة شخص نزيه تعرض للظلموالاضطهاد، فكافح إلى أن صار رئيس حكومة بلاده. طبعا البطل هو اميتاب باشون معبود الجماهير. عندما تقلد المنصب عقد أول اجتماع لحكومته علىوقع الرصاص والدم. في ذلك الاجتماع بوزرائه، فضحكل واحد منهم وعرى عن فسادهم وخذلانهم للشعب،ثم أصدر حكمه عليهم بالاعدام على يديه. عندماأنهى تنفيذ العملية بواسطة رشاش أسود، سلم نفسهلرجال الأمن الذين كبلوه. غير أن الجماهير كانتتحبه فحاولت الصدام مع الأمن من أجله. هنا امتطىاميتاب باشون سطح سيارة الشرطة ليخطب فيالجماهير عن الفساد وعن ضرورة التغيير. ختمخطابه بصرخة مفعمة بالتمثيل بأعلى صوته يدعواالشعب ” اكلااااااااب”، أي انقلاب. حينها اهتزتسينما المغرب بأحفير بصوت رجل واحد، وبحماسةعسكرية مجلجلة مدوية، اهتزت لها أركان السينماالمهترئة أصلا، رددوا وراء الممثل على الشاشة كلمةانقلاب عدة مرات. كان ذلك في زمن أثثه جيل النضالوأجيال اليسار المتعطشة إلى الحريات و الديمقراطية. لازلت أذكر بل وأسمع صدى ذلك الصوت الرهيبالمهيب في كلمة انقلاب. تلك الكلمة كانت تشكل عقدةللمخزن وتوقظ في خياله ذكريات انقلاباتالسبعينيات المؤلمة والمخيفة في نفس الوقت. وأنتتنصت إلى ذلك الصوت المرعب تخال نفسك وسطجيش يستعد للخروج للشارع للسيطرة على الإذاعاتو الشوارع ومفاصل أهم المدن والطرقات استعدادالإصدار البيان رقم واحد. ترددت كلمة انقلاب على نفس الإيقاع والحس، فقدتقمص جهمور أحفير المغربي شخصية الممثل المأجورعن دوره في الفيلم، وأصابته هستيريا الكلمةالغامضة المفعمة بحلم الشجاعة والبطولة، إلى أنأشعلت أضواء قاعة العرض فانقرض الحماس وطلبمن الجمهور، الذي فضل البقاء في القاعة لمدة بفضل جو الحماس، طلب منه الإنصراف إلى مثواه معمنتصف الليل تقريبا. على بوابة السينما كانت المفاجئة المعتادة. شرطيينمن الحرس القديم رفقة عنصرين من القوات المساعدةللزمن نفسه، بصحبة شيخ عون السلطة وموظف عنالشؤون العامة الذين كلهم كانوا يساهمون في ضبطالحركة مع بداية الليل. اولى أوامر الشرطة في البوابةالوحيدة هي إظهار بطاقة التعريف الوطنية. البطاقةكانت عملة نادرة حينها، من يملكها فقد كان من عليةالقوم. صفع وركل ورفس لكل من لم تكن معه البطاقة. بل حتى بعض ممن كانت لديهم تعرضوا لدفعة مذلة إلى الشارع أو لكمية معتبرة من السب والشتم وفققواميس أعدت بشكل خاص ووفق معايير الانتماء الطبقي والمهني آنذاك. كان هناك من تعرض لنوبة تبول لا إرادي حادة، هناكمن بكا بكاء المكلوم في أمه، وآخر استعطف والتمسوقبل اليدين، وآخر توسل بالأبناء وبالرسول الكريم وصحابته الكرام، وآخر زج به إلى سيارة الإسعافالتي كان يستعملها “المخزن” في نقل المشتبه بهمالتوفر على أضعف الإيمان المحتمل للإخلال بالأمنالعام. أما نحن أصحاب الجثث الصغيرة جدا، فقد ساعدناالرب الرحيم للقيام بعملية دقيقة ومدروسة بعناية وتكتيك شديد لهروب كبير بأعحوبة، من تحتالأرجل نحو الشارع. ومع ذلك فإنه بعد تفرق الحشدالسينمائي الذي لم يفرح بالفلم، يطارد المخزنالانقلابيين المفترضين في الأزقة المظلمة لادخالهمإلى بيوتهم عنوة. سنوات الضوئية عديدة كانت بين جمهور السينماالذي وقف وقفة رجل واحد بصوت واحد وبحركةواحدة صارخا انقلاب، وبين تلك الأجساد المرتجفة أمام صولة المخزن. ذلك الجمهور البئيس إنهارت قواهودفاعاته أمام أول همس ونميمة عن إحتمال وجودالمخزن في باب السينما. أتذكر كم كان الشعب شجاعاداخل القاعة بل حطم جميع أرقام القياس في الصراخداخلها، وكم كان جبانا مرتعبا خارجها محطما أرقاماقياسية عالمية جديدة أخرى في الخوف. أتذكر ذلك كله وأنا أشاهد الحجافل والصراخ في كلمكان في مغرب اليوم، حول قضايا كثيرة اجتماعيةوسياسية وثقافية وغيرها. صراخ بطولي في الشتاءلا يكاد يصل مداه إلى عطلة الصيف. ينسى وينسىكما نسيت صرخات قبله. صراخ مزعج ليس له عمق أوقرار أو فروع. المفارقة الوحيدة بين المشهدين هي أن مخزن اليوملم يعد يبدل مجهودا مخيفا خارجا عن المألوف،لإيقاف الصراخ في البوابات أو مطاردته في الليالي،لابد أنه أدرك أننا نملك ذاكرة ذبابة فقط، وأن كثيرا من الصراخ لا يستحق الرد لأنه وهمي وافتراصي،وأنه سيتلاشى لوحده في الأثير مسابقه فهو ليسسوى عادة مغربية على غرار نواح الأرملة على بعلها.