اختلفت التقييمات، وستختلف أكثر، بعد أن تنتهي أزمة تشكيل الحكومة في المغرب٬ حول معركة "كسر العظم"، بين الإسلامي، رئيس الحكومة المعين عبد الاله بنكيران و"المخزن" الذي يرمز إلى القصر ويجسد الدولة العميقة في المغرب فخلال ثلاثة أشهر ونيف، أي منذ انتخابات سابع اكتوبر الماضي التي أعطت الأسبقية لحزب العدالة والتنمية على باقي الأحزاب، ما خوله، حسب الدستور المغربي، قيادة الحكومة المقبلة، والمغرب يعيش أزمة سياسية ودستورية غير مسبوقة في حياته السياسية المعاصرة. ولأول مرة، يبدي رئيس حكومة معين مقاومةً لمحاولات التدخل من محيط القصر لفرض الأحزاب التي يجب أن تشكل الأغلبية المقبلة، ويتشبث باختياره رئيس حكومةٍ منتخبٍ يريد أن يقود حكومةً بناءً على شرعية صناديق الاقتراع، وليس استجابة لتعليمات صادرة من فوق. لكن، إلى أي حد سيصمد رئيس الحكومة المعين في موقفه هذا؟ وما الذي سيجنيه المغرب من هذا "الصمود"؟ وما هي الدروس التي ستترك آثارها على التجربة السياسية الحزبية في المغرب؟ بالنسبة لأنصار رئيس الحكومة ومؤيديه ومشايعي حزبه، يعتبر موقف بنكيران الذي رفض، حتى الآن، إملاءات شخصية مقرّبة من القصر، هو الثري عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، انتصارا ل"الديمقراطية المغربية"، وتجسيداً ل"شرعية الصناديق" التي أصبحت تؤتي أُكلها، ومحاولةً لإعادة بناء ميزان قوى جديد يرفض منطق "التعليمات"، ويسعى إلى فرض قانون لعبة جديد، يتأسس على مفاوضات شفافة، بعيدا عن مناورات الكواليس التي كانت تطبخ، في الماضي، تشكيل الأغلبيات وتعيين الحكومات. وبالنسبة للمعسكر نفسه، أي معسكر أتباع بنكيران، فإن الأزمة التي ما زال المغرب يعيش على وقعها، وعلى الرغم من آثارها السلبية على تسيير البلاد وأداء اقتصادها، إلا أنها حملت بين طياتها إيجابياتٍ كثيرة، فهي على الأقل أظهرت أن هناك جهات نافذة مقربة من القصر لا تأبه بنتائج الانتخابات، ولا تعرف شيئا اسمه "شرعية الصناديق"، تريد فرض تعليماتها في احتقار تام ل"الإرادة الشعبية". ويذهب مناصرو بنكيران إلى الإشادة ب"صموده"، كاسراً البروتوكول المخزني العتيق الذي لا وجود فيه لكلمة "لا"، وإنما للسمع والطاعة، مسبوقا ومختوما بالعبارة المرعية "نعم، سيدي أعزك الله". وهم يرون في هذا "الصمود" بداية دمقرطة الدولة ومؤسساتها، من خلال فرض أسلوب جديد في التعامل بين المؤسسات، يقوم على فصل واضح بين السلطات التي يحدد اختصاصاتها وصلاحياتها الدستور، وتعزّز الممارسة السياسية استقلاليتها عن بعضها. وفي المقابل، يرى معارضو بنكيران، ولا يتعلق الأمر هنا بخصومه الذين دعموا ووقفوا إلى جانب الطرف الآخر الذي حاول فرض تعليمات القصر على رئيس حكومةٍ منتخب، وإنما أقصد هنا القوى الديمقراطية والشخصيات المستقلة التي تنتقد الطرفين معا، أن الخاسر الكبير من معركة "كسر العظم" هذه هي الديمقراطية التي يحاول بنكيران اليوم الانتصار إلى إحدى شروطها، أي فرض "الإرادة الشعبية"، وهو الذي وقف عام 2011، في أثناء الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب، ضدها. وبحسب هؤلاء، ما يلاقيه اليوم بنكيران من صدٍّ من مقربين من القصر هو الذي جناه على نفسه، عندما اختار الاصطفاف خلف الدولة العميقة، وضد الإرادة الشعبية قبل خمس سنوات ونيف. ويذهب هؤلاء إلى اعتبار قبول بنكيران الدخول في لعبة التفاوض، وهو يدرك، أكثر من غيره، أن الأمر لا يعدو أن يكون مسرحية "سريالية"، كما وصفها عبد العالي حامي الدين، العضو القيادي في حزب بنكيران، واعتباره تزكية للعبةٍ تفتقد إلى أدنى الشروط الديمقراطية، وهي تحكيم إرادة الشعب، وليس الاستماع إلى التعليمات الآتية من فوق، يحملها إليه "وسطاء" يلبسون جلابيب حزبية. يعتبر معارضو بنكيران، أيضاً، أن قراره وقف مفاوضاتٍ "عبثية" لتشكيل حكومته استمرت ثلاثة أشهر ونيف هو إعلان عن فشل مشروعه القائم على "الإصلاح من الداخل"، فبعد خمس سنوات ونيف من محاولات الإصلاح من الداخل، يجد بنكيران نفسه أمام نفقٍ مسدودٍ، هو من زجّ نفسه بداخله. ولا تعني عبارة "انتهى الكلام" التي ختم بها بيان وقف المفاوضات فقط أن الأزمة وصلت إلى القاع، وإنما تفيد أيضاً بأن مشروع "الإصلاح من الداخل" وصل إلى السقف الذي لا يمكنه تجاوزه، وبالتالي، بات عليه مراجعة أوراقه أو ممارسة نقده الذاتي. وبعيداً عن مؤيدي بنكيران وخصومه ومعارضيه، فإن معركة "كسر العظم" بين رئيس حكومة منتخب و"المخزن" أظهرت، بما لا يدع أي مجال للشك، أن "الإصلاحات" التي تبناها المغرب عام 2011، وأيّدها بنكيران وأنصاره لم تغير أي شيء في بنية السلطة في المغرب التي ما زالت بيد القصر. كما أن الانتخابات ونتائجها، بكل عللها، ما زالت بعيدةً كل البعد عن تجسيد "الإرادة الشعبية"، وبأن المشاركة فيها، بالشروط الحالية نفسها، إنما هي تزكية ل"سلطة التعليمات" على "سلطة الشعب" التي خرجت المظاهرات للمطالبة بفرضها عام 2011، ووقف ضدها بنكيران، ومن يدعمونه، صفاً واحداً خلف "القوة القاهرة" التي تهين اليوم الجميع بلا استثناء، وبكثير من الغطرسة والاستعلاء. رابط المقال