08 نوفمبر, 2016 - 11:52:00 بحلول يوم 9 نوفمبر يكون قد مضى شهر كامل على تكليف الملك محمد السادس، بنكيران، بتشكيل الحكومة المقبلة. وحتى اليوم مازالت الصورة غير واضحة ولا يعرف متى سيمكن لبنكيران أن ينجز مهمته. وفي العرف المغربي يبدو مثل هذا الوقت عادي منذ أن أصبح الملك يعهد للوزير الأول، في الدستور القديم، أو لرئيس الحكومة، في الدستور الجديد، بتشكيل الحكومة. فقد تطلب تشكيل النسخة الأولى من حكومة بنكيران عام 2011 نحو 40 يوما، ونفس التوقيت أيضا استغرقه تشكيل أو حكومة "التناوب التوافقي" برآسة عبد الرحمن اليوسفي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، عام 1998. "خطوط حمراء" لكن ما يزيد من صعوبة مهمة بنكيران، الذي تصدر حزبه الانتخابات التشريعية الأخيرة، وربما قد يجعل مدة تشكيل أغلبيه الحكومية تطول عن المعتاد، ليس هو إقناع الأحزاب السياسية التي ستشكل الأغلبية المقبلة، وإنما "الخطوط الحمراء" التي وضعها أمامه الملك عندما طالب رئيس الحكومة المعين بأن تكون الحكومة المقبلة "جادة ومسؤولة"، وأن لا يخضع تشكيلها ل "مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية". وفيما اعتبر تطاولا حتى على اختصاصات رئيس الحكومة التي ينص عليها الدستور، أكد الملك أنه سيحرص على تشكيل "حكومة منسجمة" من "كفاءات مؤهلة وباختصاصات قطاعية مضبوطة" طبقا لمعايير حددها هو، و"وفق منهجية صارمة"، وبأنه "لن يتسامح مع أي محاولة للخروج عنها". وهذا ليس سوى واحدا من بين عدة انتقادات وجهها الملك إلى الرجل الذي كلفه بتشكيل الحكومة، فقد حمَّل الملك في نفس الخطاب، رئيس الحكومة المعين، الذي سبق له أن قاد الحكومة طيلة خمس سنوات الماضية، مسؤولية عدم وفاء المغرب بالتزاماته الدولية عندما أكد على أن تكون الحكومة المقبلة "قادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية، في ما يخص الوفاء بالتزامات المغرب مع شركائه". خروج عن الأعراف المغربية خطاب الملك الذي جاء في لهجة واضحة وبنبرة حادة، اعتبره الكثير من المتابعين للشأن المغربي، بأنه خروج عن العرف المغربي في تعامل رئيس الدولة مع رئيس الحكومة، إذ لم يعتد المواطنين المغاربة أن يسمعوا تقريعا مباشرا من الملك لرئيس حكومته، وحتى في المرة الأولى التي حدث فيها مثل هذا الأمر، في خطاب عيد العرش يوم 30 يوليو الماضي، تجنب الملك الإشارة إلى رئيس الحكومة واكتفى بالإحالة على تصريحات منسوبة إليه. أما خطاب دكار فكانت لهجته واضحة وهو يتوجه بالخطاب مباشرة إلى رئيس الحكومة. وحسب "الأعراف" المغربية فقد جرت العادة أن تصدر مثل هذه "التوجيهات" و"الانتقادات" من الرئيس إلى مرؤوسه داخل غرف مغلقة أثناء تعيين الملك لرئيس الحكومة أو في مناسبات خاصة لا يطلع عليها الرأي العام. وبما أن هذا "العرف" تم كسره، فقد تم فتح الباب لكسر عرف آخر، وهو الرد على الخطاب الملكي من طرف رئيس الحكومة المعين. فقد جرت العادة أيضا أن خطابات الملك لا تناقش وإنما تنفذ. لكن هذا التقليد ربما أصبح من الماضي، فمباشرة بعد صدور خطاب الملك من دكار بكل "الخطوط الحمراء" التي حملها، توجه بنكيران رئيس الحكومة إلى ميكرو وكاميرا القناة الأولى الرسمية، ليعلن عن تصوره هو الآخر للحكومة المقبلة التي كلف من طرف الملك بتشكيلها. وفي رد واضح ومباشر على كلام الملك، قال بنكيران: "إن الحكومة لا يمكن أن تكون مجرد غنيمة وإشكالية حسابية فقط". وردا على معيار "الكفاءة" الذي حدده الملك وضع بنكيران معيارا آخر مستنبط من مرجعيته الإسلامية ألا وهو معيار "الصالحين"، عندما قال بالحرف إن "الحكومة هي مؤسسات يجب أن تكون جادة ولها برامج واضحة المعالم وتتكون من رجالات صالحين". وهذه أول مرة يشهد فيها المغاربة هذا النوع من "التراشق" بالتصريحات، وعبر وسائل الإعلام الرسمية، بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة. شبه فراغ سياسي خلفيات هذا "التراشق" أصبحت بادية للعيان وقد سبقت إجراء الانتخابات التشريعية الماضية يوم 7 أكتوبر، عندما توجه الملك بكلام مباشر ينتقد تصريحات رئيس الحكومة آنذاك عبد الإله بنكيران، ومع ذلك لم يكن لهذا "النقد الملكي" تأثير على اختيارات الناخبين. وبرزت حدة "التوتر" بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، في تصريح وزير الداخلية ليلة إعلان نتائج الانتخابات عندما اتهم علانية حزب رئيس الحكومة المنتهية ولايتها بالتشكيك في المؤسسات العليا للبلاد وفي التعليمات التي يصدرها الملك. هذا التوتر في العلاقة بين المؤسستين كانت له أثاره الواضحة على سير مؤسسات البلاد. فمنذ أكثر من شهر والمغرب يعيش بدون حكومة، وبدون برلمان، رغم وجود البرلمان بغرفتيه، بما أن "مجلس النواب" منذ انتخابه قبل شهر مازال لم يَنتخب رئيسه وهياكله الداخلية. أما مجلس المستشارين، وهو الغرفة السفلة داخل البرلمان، فيكاد يكون بدون صلاحيات تذكر، وفي غياب مجلس النواب والحكومة، يتحول إلى مجرد عالة على ميزانية الدولة، يضاف إلى ذلك أن رئيس هذه المؤسسة، وبالرغم من أنه محسوب على الحزب الموالي للقصر، إلا أنه لم يسبق له أن أٌستقبل من طرف الملك. وهذه سابقة أخرى في تاريخ هذه المؤسسة، فحتى عندما كانت ترأسها شخصيات مطعون في ذمتها كانت تحظى باستقبال الملك بمجرد انتخابها كرابع شخصية بروتوكولية في هرم السلطة المغربي. عقدة المنشار أما تشكيل الحكومة فتلك هي "عقدة المنشار" كما يقول المثل المغربي. فمنذ تعيينه رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة في التاسع من أكتوبر الماضي، يحاول بنكيران بدون جدوى تشكيل أغلبية تتكون منها حكومته المقبلة. ومع مرور الأيام بدأت تلوح في الأفق بوادر أزمة سياسية. فالمشاورات التي قادها رئيس الحكومة المعين وصلت إلى باب مسدود إن لم تكن قد توقفت تماما. ففي الوضع الحالي وبعد مرور شهر على إجرائه مشاوراته لم يحصل رئيس الحكومة سوى على موافقة حزبين هما "التقدم والاشتراكية" و"الاستقلال" مما يجعله في حاجة إلى نحو 15 مقعدا إضافيا، كان من المفروض أن يوفره له حزب "الإتحاد الاشتراكي" الذي مازال يبدي تماطلا في الاستجابة إلى الدعوة للمشاركة في الحكومة المقبلة. ولو تحقق لبنكيران تشكيل حكومة من هذا الرباعي فسيكون بذلك قد حقق نصرا سياسيا تاريخيا بجمعه للمرة الأولى بين الإسلاميين وأحزاب الحركة الوطنية المعروفة تحت اسم "الكتلة" داخل نفس الحكومة، لكن يبدو أن هناك جهات تسعى إلى الحيلولة دون أن تتشكل مثل هذه الأغلبية. وبالمقابل وعلى الطرف الآخر تقف ثلاثة أحزاب شكلت فيما بينها كتلة موحدة للتفاوض مع بنكيران هي أحزاب "التجمع الوطني للأحرار" و"الإتحاد الدستوري" و"الحركة الشعبية" وكلها من الأحزاب التي توصف في المغرب ب "الإدارية"، أي أنها من صنع الإدارة التي مازالت تتحكم في قراراتها وتملي عليها توجهاتها. وبالرغم من أن بنكيران لا مانع لديه من التحالف مع هذه الأحزاب، إلا أن الرفض هذه المرة جاء منها، بعدما اتهم عزيز أخنوش، رئيس حزب "التجمع الوطني للأحرار" رئيس الحكومة المعين بتسريب مضمون المفاوضات التي جرت بينها. والمعروف أن أخنوش، وهو رجل أعمال وملياردير، يٌنظر إليه كرجل القصر داخل الحكومات المتعاقبة، ويٌعتبر تنصيبه على رأس الحزب الذي يوجد عليه اليوم بمثابة المرور إلى الخطة "ب" في السيناريو الذي كان مرسوما قبل الانتخابات لإزاحة الإسلاميين من رآسة الحكومة. شروط أخنوش وبحسب المعلومات التي استقاها موقع "لكم" من مصدر مقرب من بنكيران، فإن هذا الأخير يرى أن "الجهات التي خسرت معركتها السياسية معه في الانتخابات بعد أن استعملت كل المحرمات ضده في تلك المعركة، تريد أن تسترجع بالتحايل والتذاكي ما خسرته في السياسة". وطبقا لذات المصادر فإن نفس هذه "الجهات" التي رفضت الإفصاح عنها هي التي أوعزت إلى إدريس لشكر، الكاتب الأول ل "الاتحاد الاشتراكي" بعدم التحالف مع بنكيران، وهو ما يفسر "تماطله" حسب تعبير ذات المصدر. أما حزبي "الإتحاد الدستوري" و"الحركة الشعبية" فتحولا حسب نفس المصدر إلى "مختطفين" من قبل أخنوش الذي يفاوض بنكيران بهما. ونقل نفس المصدر عن بنكيران وصفه للحالة التي يعيشها اليوم بأنها نوع من "الابتزاز"، وهو ما سبق أن عبر عنه بنكيران نفسه في تصريح لجريدة "أخبار اليوم" عندما قال بأنه سيعيد مفاتيح الحكومة إلى الملك ويعود إلى بيته في حال فشله في تشكيلها. ويتمثل هذا "الابتزاز" بحسب ما كشفت عنه "أخبار اليوم" في الشرط الذي وضعه أخنوش لدخول الحكومة، ألا وهو إبعاد "الاستقلال" و"التقدم والاشتراكية" عنها. وحتى في حال قبول بنكيران لشروط أخنوش فإنه سيتحول بنفسه إلى رهينة في يديه، ويصبح هذا الأخير بمثابة رئيس الحكومة الفعلي، وهذا ما دفع بنكيران، حسب نفس المصدر، إلى التصريح بأنه يفضل العودة إلى بيته في مثل هذه الحالة. وحسب المصدر الذي تحدث إلى الموقع، ورفض الكشف عن هويته، فإن بنكيران غير مستعد ل "للخضوع لهذا الابتزاز ويعتبر أنه على الجهات التي تهندس هذه المناورات أن تتوقف عن ذلك وإلا فهو ليس مستعد للاستمرار في التجاوز عن الضربات تحت الحزام وسيتوقف عن اللعب". سيناريو 2002 أمام هذا الوضع المتأزم يصبح سيناريو 2002 ماثلا للعيان، عندما أقدم الملك محمد السادس على تعيين وزير أول تكنوقراطي في نفس العام. فبعد الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب تلك السنة وتصدر فيها حزب رئيس الحكومة المنتهية ولايتها الانتخابات، دخلت أحزاب الأغلبية السابقة في مناوشات سياسية فيما بينها، فذهب عبد الرحمن اليوسفي، رئيس الحكومة المنتهية آنذاك، والكاتب الأول لحزب "الاتحاد الاشتراكي" في البحث عن أغلبية جديدة وأعلن تحالفه مع حزب "التجمع الوطني للأحرار"، أما حليفه وغريمه التاريخي حزب "الاستقلال" وبالرغم من انه جاء في المرتبة الثانية في تلك الانتخابات إلا أنه طالب بحقه "التاريخي" في التناوب وأصدرت الجريدة الناطقة باسم الحزب افتتاحية "آمول نوبة"، في إشارة إلى الملك لتعيين أمين عام "الاستقلال" وزيرا أولا لحكومة ذلك العهد. والنتيجة كانت هي ما وصفه "الاتحاد الاشتراكي" في بيانه التاريخي ب "الخروج عن المنهجية الديمقراطية". خطط بديلة وبالرغم من استبعاد أن يتكرر هذا السيناريو كما حدث عام 2002، إلا أن حالة "الجمود" التي تعرفها اليوم مشاورات تشكيل الحكومة، وجانب من مسؤوليته يتحمله رئيس الحكومة المعين، قد ترجح اللجوء إلى سيناريوهات مماثلة كنوع من "الخطط البديلة" لتجاوز مرحلة "الأزمة السياسية" الصامتة التي تعيشها البلاد، لكن هذا السيناريو لن يكتب له النجاح إلا في حالة إعلان بنكيران فشله التام في تشكيل أغلبية حكومية، لأنه حتى في حال تشكيله حكومة أقلية سيواجه نفس العراقيل في تنصيبها أمام البرلمان بغرفتيه الذي سيصبح تحت رحمة معارضيه. ففي حال إعلان بنكيران فشله سيفسح الطريق أمام الملك لاختيار رئيس حكومة بديل، وليس بالضرورة هو رئيس حزب "الأصالة والمعاصرة" الذي حل في المرتبة الثانية في الانتخابات الأخيرة، وإنما قد يكون شخصية حزبية قادرة على تشكيل أغلبية حكومية، وفي هذه الحالة سيطرح اسم أخنوش الذي بدأ من الآن في تشكيل أغلبيته بعدما أصبح يفاوض باسم ثلاثة أحزاب سياسية هي حزبه وحزبي "الاتحاد الدستوري" و"الحركة الشعبية"، ولا يستبعد أن يلتحق به، في حال تعيينه رئيسا للحكومة، كلا من "الأصالة والمعاصرة" و"الاتحاد الاشتراكي". وبالرغم من استبعاد حصول هذا السيناريو، لما سيكون له من ردة فعل في الشارع وانعكاس على صورة المغرب في الخارج، إلا أن واقع التحالفات الحزبية اليوم هو كالتالي: "العدالة والتنمية" و"التقدم والاشتراكية" و"الاستقلال" في جهة، والأحزاب الأخرى في الجهة الثانية. وفي حال ظل بنكيران متمسك بحليفيه، وظل أخنوش متمسك بما نسب إليه من شروط، أي إبعاد "التقدم والاشتراكية" و"الاستقلال" عن الحكومة المقبلة فيبدو أن لا انفراج يلوح في الأفق القريب للأزمة السياسية التي بات المغرب يقف على أبوابها.