نظمت وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ومنتدى تعزيز السلم بالمجتمعات الإسلامية، من 25 إلى 27 يناير بمراكش، مؤتمرا حول "الأقليات الدينية في الديار الإسلامية : الإطار الشرعي و الدعوة إلى المبادرة". وهو اللقاء الذي ضم أزيد من 300 فقيها ومفكرا وباحثا من أكثر من ستين بلدا، وقد تمخض اللقاء عن بيان سُمي "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي"، وإذ نثمن النقط الإيجابية التي تضمنها الإعلان، فإننا نورد ها هنا بعض الملاحظات النقدية حول ما تبقى من نقط عالقة تم إغفالها، وذلك توخيا لتعميق النظر، والدفع نحو مواقف أكثر واقعية وشجاعة ومسؤولية، من أجل السلم الفعلي وترسيخ قيم المواطنة والتعايش المشترك بين كل المواطنين في البلدان الإسلامية: إن التفكير في تنظيم هذا اللقاء بأهدافه المعلنة ومراميه هو "إنجاز يستحق الاعتراف في حد ذاته" كما عبر وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، وذلك بالنظر إلى ما آلت إليه المجتمعات الإسلامية من استحكام للتقليد والنزعات النكوصية، وتزايد خطابات العنف باسم الدين . إن اعتماد منظور اجتهادي من داخل المنظومة الإسلامية لتلبية حاجات الدمقرطة والتحديث هو أمر محمود طالما دعونا إليه، باعتباره عاملا مساعدا في مواجهة التطرف الديني وسعي التيارات الإخوانية والوهابية لعرقلة مسلسل الانتقال نحو الديمقراطية، باستعمال مفهوم مغلق للخصوصية الدينية. إلا أن هذا الاختيار يقتضي قدرا كبيرا من الشجاعة لتفادي التناقضات والحلول الوسطى التي لا تقدّم أي بديل حقيقي. كما تحتاج إلى إعطاء الأولوية للإنسان المواطن على النصوص، وكذا للواقع المعيش على التراث الفقهي القديم. من هذا المنطلق نؤكد على الإيجابيات التالية الواردة في الإعلان: اعتبار ضرورة اعتماد نظرة شمولية إلى الدين ومقاصده السامية عوض الوقوف عند نصوصه المتفرقة والمعزولة عن سياقاتها التاريخية مما يؤدي إلى قراءتها قراءة حرفية. التأكيد على أن الجهات المخولة بالاجتهاد ملزمة باعتبار الواقع وكذا السياق الذي ارتبطت به الأحكام الشرعية . الحث على ضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان واعتبار ذلك أمرا حتميا تدفع إليه المخاطر والأزمات التي تتولد عن الصراعات الدينية والطائفية المهددة للحضارة الإنسانية. دعوة علماء ومفكري المسلمين إلى العمل على التأصيل لمبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات. حث المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية على القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي للمضامين التي تولد التطرف والعدوانية. دعوة الساسة وصناع القرار إلى اتخاذ التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية. دعوة المثقفين والمبدعين وهيآت المجتمع المدني إلى تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية ونشر الوعي بحقوقها. إعادة قراءة الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيدا عن الجور والإقصاء والعنف. هذه الأفكار الهامة ينقص من قيمتها ومردوديتها نقط الضعف التالية: أن اعتبار "صحيفة المدينة " الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات يطرح مشكلتين: الأولى أنها وثيقة منسية تم تغييبها كليا على المستوى التشريعي خلال الأربعة عشر قرنا الماضية، حيث تم نسخها وتعويضها بما سمي ب"أحكام أهل الذمة" عند فقهاء الشريعة، وهي أحكام تقوم على مفهوم الغلبة والقوة وليس على مفهوم العيش المشترك، أو معنى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهذا ما يفسر لماذا لم تُبن على الصحيفة المذكورة ثقافة إسلامية وتشريعات تفيد الاحترام المتبادل، بقدر ما بُنيت على قراءة نصوص أخرى ثقافة الميز والتحقير المتعمّد . المشكلة الثانية أن "صحيفة المدينة" وضعت في سياق خاص استعملت فيه مفاهيم ونعوت لا يمكن استعمالها اليوم في إطار المواطنة، مثل "المشرك" و"الكافر"، حيث من بين بنود الصحيفة "ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن"، كما أن سياق الصحيفة لم يعرف الديانات المنتشرة اليوم، بل كان هدفها تدبير خلافات تلك المرحلة وخاصة مع اليهود. بينما تعرف المجتمعات الإسلامية اليوم ديانات كثيرة أخرى كالبهائية والمذهب الشيعي وغيرهما. أن الأقليات المقصودة في "إعلان مراكش" وكذا في الرسالة الملكية والكلمة التوجيهية لوزير الأوقاف هي الأقليات التاريخية الموجودة منذ قرون مثل اليهودية والمسيحية خاصة، دون اعتبار الأقليات الجديدة التي تتشكل حديثا مثل المسيحيين المغاربة من غير المقيمين، أي الذين اعتنقوا المسيحية في العقود الأخيرة دون أن تعترف بهم الدولة أو تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحرية. وهذا يجعل الإعلان لا يحلّ المشكل إلا جزئيا، ولا يساير التطورات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، حيث ليس المشكل مشكل تطرف إرهابي فقط، بل هو أيضا مشكل استبداد الدول الإسلامية نفسها التي لا تريد أن تعترف بحق الأفراد في اختيار دينهم بحرية. لا ينطوي الإعلان عن أي اعتراف بأخطاء الماضي في تعامل المسلمين مع غيرهم، حيث يقول عن الأقليات الدينية إنها "عاشت في كنف المسلمين وذمتهم قرونا، في جو من التسامح والتعارف والتآخي" مرجعا التجاوزات في حق هذه الأقليات إلى بعض "الاجتهادات الفقهية" وإلى التأثر "بممارسات تاريخية في سياق واقع مختلف عن الواقع الراهن". والحقيقة أن الأمر كان يتعلق بنظام شرعي كامل في التعامل مع من سموا "أهل الذمة". إن ثمة مبدأ لا بد من التذكير به في هذا الصدد، وهو أن الشعوب لا تعود عن أخطائها إلا بعد اعترافها بها، ولقد اعترفت الكنيسة بماضيها الأسود واعتذرت عنه للعالم، بينما لم يسبق أن اعترف علماء المسلمين في مجامعهم واتحاداتهم بما جناه الفقهاء و"أهل الحل والعقد" في لحظات كثيرة من تاريخ المجتمعات الإسلامية على الإسلام والمسلمين، ما أدى بهم إلى الانغلاق والتخبط في مهاوي الجهل والتخلف. ويُعدّ عدم الاعتراف والاعتذار أحد مظاهر استمرار مساوئ الماضي في بلدان المسلمين، حيث لا يمكن الاعتذار عن أشياء ما زالت تمارس على أنها الحق. لم يتم التنصيص في الإعلان عن ضرورة تعديل الدساتير والقوانين الجنائية للدول الإسلامية لملاءمتها مع النظرة الاجتهادية المذكورة ومع التدابير المتخذة، حيث تحفل النصوص القانونية بالكثير من فقرات التمييز والحجر والقهر. ومنها مثلا السكوت عن المكونات الدينية المختلفة، أو منع بناء أماكن العبادة وممارسة الشعائر الدينية غير الإسلامية بحرية ودون خوف. وكذا إقرار حرية المعتقد التي هي أساس احترام الأقليات الدينية. لم يتم التنصيص في الإعلان عن ضرورة منع الدعاء على اليهود والنصارى في المساجد بأن "يزلزل الله الأرض من تحت أقدامهم ويرمّل نساءهم وييتم أطفالهم ويجعل أموالهم غنائم للمسلمين" ( !!)، مع العلم أنه دعاء ما زال معمولا به في مساجد المسلمين بل إنه يُتلى حتى في بعض مساجد الدول الغربية، وهو أمر أشبه بالنكتة. نص الإعلان على ضرورة أن تعمل الجهات المختصة في الدين على اعتبار الواقع وسياقات الأحكام، وعلى التأصيل لمبدأ المواطنة، غير أنه ترك ذلك لضمير الفقهاء دون أي إلزام، وهو عمل لا طائل من ورائه لأن "أهل الاختصاص" في معظمهم غارقون في التراث الفقهي ويكتفون بالتقليد، كما يعتبرون أي اجتهاد فعلي خيانة لمن سبقهم وخروجا عن "الإجماع" وتنازلا عن دورهم في ضبط المجتمع والتحكم فيه. أناط السيد وزير الأوقاف بالفقهاء مهمة "تصحيح المفاهيم"، وهو أمر هام، لكن تصحيح المفاهيم يقتضي تكوينا حديثا ومعرفة علمية متجددة، كما أننا بحاجة إلى تأهيل هذه النخبة النيرة من الفقهاء من طرف الدولة، وتخصيص الميزانيات الضرورية من أجل تحقيق مراجعات فقهية شاملة في الإطار الرسمي، أي أن تكون اجتهادات تتبناها الدولة في قوانينها ومرجعياتها السياسية والتربوية، حتى لا تبقى مجرد آراء شخصية محاصرة بجحافل المقلدين والمتطرفين كما حدث ويحدث. دعا الإعلان المثقفين والمبدعين وهيآت المجتمع المدني إلى تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية ونشر الوعي بحقوقها، غير أنه لم ينصّ على ضرورة توقف الكثير من الدول الإسلامية عن محاربة المثقفين والمبدعين ومحاكمتهم بسبب أفكارهم حول المساواة والتسامح والمواطنة، كما لم يشر إلى مهمة الدول في توفير التربة لذلك التيار التنويري المطلوب، حيث تعمد الكثير من الدول إلى سنّ سياسات مناقضة للهدف المذكور. لم ينص الإعلان على نقد مواقف الفقهاء المسلمين في بعض تنظيماتهم، والتي دعت جهارا إلى القتال والمقاتلة في سوريا والعراق، مساهمة بذلك في تأجيج نار الفرقة وإشاعة الكراهية، حيث من غير الممكن أن ندعو إلى "تصحيح المفاهيم" من يتعمد تحريفها بغرض الانتقام أو سحق الخصوم السياسيين. وقد ختم الإعلان بالعبارة التالية: " لا يجوز توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية"، والحقيقة أن هذا يتوقف على تناول جدي وواضح للنصوص المستعملة من طرف الإرهابيين والدول الإسلامية الدينية كالسعودية وإيران والسودان، وغيرها من دول التطرف والغلو التي تستعبد مواطنيها باستعمال الدين. حيث في غياب هذا الجهد في التفسير والتأويل والتوضيح سيصعب كثيرا التمييز بين الإرهابيين وبقية المسلمين.