يلاحظ من تشكيلة بنكيران الثانية عودة قوية للدولة العميقة للتحكم من جديد في دواليب تعيين الحكومة، فمن خلال مرور سريع على أسماء الوزراء 39 الذين أقترحهم بنكيران على الملك، نجد 7 وزارات للسيادة وأسماء فرضت على حزب الأحرار وتواجد قوي للبورجوازية الريعية في أكثر من منصب حكومي. قراءة أولية في التشكيلة الجديدة، نستنتج منها أن المملكة تسير على النهج العبثي في الممارسة السياسية في خرق واضح للدستور وعدم احترام تام لنتائج الانتخابات التشريعية.
حيث أنه في عز الأزمة الاقتصادية وسياسية التقشف الاقتصادي ورفع الأسعار الحكومية، نجد المملكة تتوفراليوم على حكومة عدد وزرائها يفوق عدد وزراء دولة مثل الصين الشعبية التي يتجاوز عدد سكانها المليار والنصف.
اليوم أصبح لدى المغاربة وزيرا لكل مليون مواطن مغربي، ولهذا فعلى الملك محمد السادس ان يسرع لتعيين حكومة ثالثة لتسيير الحكومة الحالية، التي تتكون من كثيبة وزراء تقارب سكان إمارة قطر البترولية.
العدد الكبير للوزراء يدل على ان المغرب لا يعاني من أزمة مالية وإنما من أزمة أخلاقية وسياسية في تدبير الثروة وتوزيعها العادل، فلا يعقل ان تدفع الطبقة المتوسطة والفقراء ضريبة الأزمة، فيما يتمتع وزراء بنكيران بالأجور الضخمة والتعويضات الدسمة.
هناك عشوائية واضحة في تقسيم القطاعات الوزارية، فنلاحظ أن الملك خيرا فعل عندما حذف الحريات من اسم وزارة العدل، لان هذا ينسجم مع التوجه السلطوي الجديد للمملكة ويعبر بالفعل على أننا لسنا في مرحلة حريات بل مرحلة اعتقالات سياسية بالمجملة وطبخ الملفات للنشطاء السياسيين والصحفيين والانتقام منهم بمحاكمات سياسية وبتهم سريالية، كما أن حذف المجتمع المدني من وزراة الشوباني كان قرار صائبا، لان هذا الوزير تعامل بمنطق حزبوي ضيق في تعاطيه مع جمعيات المجتمع المدني، عندما جمع حوله جمعيات سلفية واسلامية في حوار موجه ومخدوم، أثار غضب مجموعة من الجمعيات الجادة النشيطة في المجتمع المدني.
دائما في سياق التقسيم الحكومي، يلاحظ أن هناك وزارات تم تخيطها من أجل إرضاء بعض العائلات البورجوازية النافذة في الدولة العميقة، فمثلا كيف يعقل ان تسمى وزارة في القرن الواحد والعشرين بهذا الاسم المثير للسخرية": الوزارة المنتدبة لدى وزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي المكلف بالمقاولات الصغرى وإدماج القطاع غير المنظم"، فحتى في الدولة الأكثر دكتاتورية لم تعد مثل هذه الأسماء الممطوطة تطلق على الوزارات، لكن يبدو أن تسمية هذه الوزارة جاءت بعد الانتهاء من توزيع الحقائب ولكي لا يغضب ابن الملياردير السوسي بوهدهود، فصلوا له هذه الوزارة لكي يتعلم "لحسانة في ريوس ليتامى" كما يقول المثل الشعبي المغربي !!
نلاحظ من خلال التشكيلة الحكومية، أن عقلية الحسن الثاني في تشكيل الحكومات كانت طاغية بقوة، فهناك حضور قوي للبورجوزية الريعية حيث حصل الملياردير مولاي حفيظ العلمي على وزارة مصبوغة بحزب مزوار، في تقليد سياسي سيء يشجع على العزوف من العملية الانتخابية وعدم الانخراط في الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى تواجد المليارير عزيز اخنوش في وزارة الفلاحة بدون لون سياسي، بعد أن أزالوا عنه سابقا لون حمامة الأحرار لكي يستوزر في حكومة بنكيران الأولى، يضاف إلى هؤلاء ابنة ملياردير الصحراء "بوعيدة" وابن المليونير عبو وابن الملياردير السوسي بوهدهود، مما يؤشر على أننا في عز الأزمة الاقتصادية أمام حكومة بورجوازية ريعية بامتياز.
الدولة العميقة حاضرة بقوة في هندسة الحكومة الجديدة، من خلال عودتها للهيمنة على أم الوزارات في شخص محمد حصاد ووزارة المالية التي التحقت بوزارات السيادة وأسندت لرجل الداخلية محمد بوسعيد، لتضاف الى وزارة التربية الوطنية التي أسندت للرجل المقرب من القصر، رشيد بلمختار، والذي سبق وفشل في إصلاح التعليم إبان توليه قيادة الوزارة نفسها في عهد حكومة الفيلالي الثانية، كما عادت الخارجية لدواليب المخزن بعد أن اسندت لرجل ضعيف الشخصية اسمه صلاح الدين مزوار، والذي لازال يتبعه الكثير من اللغط بسبب فضيحة تبادلها البريمات مع خازن المملكة بنسودة.
خلاصة القول انه من خلال تشيكلة الحكومة الجديدة، يتضح جليا أن هناك انقلاب دستوري واضح على دستور 2011 وما يسمى بالانتقال المغربي السلس نحو الديمقراطية، من خلال العودة القوية للدولة العميقة للهيمنة على تدبير أغلب الوزارات المهمة، مما سيفقد حكومة بنكيران ما كانت تملك من قرارات على هزالتها، لكي نعود مرة أخرى إلى سنة 2007 وعهد التحكم في الأحزاب والحكومة والمجتمع المدني.