تحاول أن تتنفس شيئا من الهواء...تجده هو الآخر ممنوعا، ينهرك رجل ضخم بجاكيط جلدي أسود تكتشف فيما بعد أنه من رجال الأمن السريين...ذنبك الوحيد أنك ممرت من أمام وزارة الداخلية وتأملت فيها للحظات بمبناها الضخم وأجهزة إرسارها المتنوعة التي تحصي على المواطنين أنفاسهم...يطلب منك بفظاظة أوراقك ثم يأمرك بمتابعة السير ورأسك محني بإذلال. في المغرب يومها كانت الصورة مختلفة تماما...كنت قد نجحت في "تهريب" مجموعة من الجرائد والمجلات معي وكان يسعدني أن أرقب أصدقائي التوانسة وهم يتتصفحونها بإجلال مشوب برهبة غريبة ثم يبتعدون عنها وكانها تهمة...عناوين تلك الصحف كانت تنتقد الملك...عناوين "الصحيفة" و"لوجورنال" التي لا زال الكل يتذكرها...يومها في تونس لم يكن أحد يجرأ على انتقاد مسؤول تافه في الحزب الحاكم فبالأحرى رأس النظام. في مدرج القانون الدستوري حيث كنا ندرس، كان الأستاذ يحيي في كل مناسبة تجربة التناوب المغربية والتعاقد "الجديد" بين الملكية والمعارضة...كنا بلدا يصنع الأمل في التغيير الحضاري المبني على التعاقد الواضح بين النخبة السياسية والحاكم لإدارة مصالح البلاد...كان التوانسة يرقبوننا بشيء من الغبطة وكثير من الحسد...اليوم ماذا تبقى من ذلك؟ صحوت قبل أيام على خبر :"بنعلي هْرب..!" والتوانسة يزيلون صور الديكتاتور التي كانت تخنق الفضاء العام...خنق الديكتاتور حرية التعبير لكنه لم يقتل قدرة الإنسان وإرادته في التغيير...عندنا أصبحت الصورة تختلف وسحابة القتامة انتقلت لتجثم على أنفاسنا...غرقت البلاد في تراحع خطير ومسار التغيير انحرف...الإصلاح المنشود تاه وسط زحمة المصالح والتطاحنات الشخصية التافهة...في تونس تكونت طبقة وسطى علمانية مهيأة لاحتضان الديمقراطية والحداثة، وحينما خرج الناس كان أفقهم مرسوما بوضوح...الوضع عندنا مختلف تماما، وإن حدث وانتقل إلينا فيروس "الثورة" فإن سيناريو الفوضى هو المرتقب...لن تنجح دعاوى "تصويب مسار الإصلاح" في تهدئة الشارع الذي ضعف مؤطروه. البارحة كانت تونس ومصر، واليوم البحرين واليمن وحتى ليبيا المحنطة داخل ثابوت العقيد...حذار من الشرارة الأولى في مغرب كله قش!