ما إن نزلت افتتاحية نشرتها "التجديد"، لسان حركة التوحيد والإصلاح، قبل ثلاثة أيام تنتقد فيها قرار رشيد بلمختار، وزير التربية الوطنية، القاضي بعدم الترخيص لرجال التعليم من أجل استكمال دراستهم الجامعية حتى تحولت مضامين هذه الافتتاحية بسرعة قياسية إلى ملتمس قدّمه فريق العدالة والتنمية في مجلس النواب بتوقيع النائب عن دائرة تنغير، أحمد صدقي، يطالب فيه الوزير بمختار بالعدول عن هذا القرار ويدعو بالحرف إلى ما دعت إليه "التجديد" من "ضرورة التفكير في صيغ جديدة لتجاوز ما تطرحه متطلبات استكمال الأساتذة لدراساتهم الجامعية من إخلال غير مقصود بسير الدراسة في المؤسسات التعليمية وتضمن لهم الاستفادة من حقوقهم الدستورية". ليس الغرض من الإشارة إلى هذه الواقعة تأكيد العلاقة الخاصة جدا بين حركة التوحيد والإصلاح، التي تعبّر "التجديد" عن وجهة نظرها، وبين حزب العدالة والتنمية، فهذا تحصيل حاصل، فليست هذه المرةَ الأولى التي ترسم فيها "التجديد" خارطة تحركات الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، لكن المهم في هذه الواقعة هو الازدواجية الخطيرة التي تحكم مواقف حزب العدالة والتنمية في تعامله مع الوزراء المنتمين إلى الحزب والوزراء اللامنتمين أو المنتمين إلى أحزب أخرى.
ليس سرا أن أول من رفض، وبطريقة كاريكاتورية، استكمال الموظفين لدراستهم الجامعية هو الوزير الإسلامي في الحزب الحاكم، لحسن الداودي، وليس رشيد بلمختار، الذي ظلِم في هذه القضية. فقد وجّه الداودي، بتاريخ 10 أبريل 2012، أي قبل استوزار بلمختار، مذكرة لرؤساء المؤسسات الجامعية يمنع فيها الموظفين من استكمال دراستهم في التكوينات الأساسية، ويقصرها فقط على الطلبة المتفرّغين بشكل كامل، مع إلزامية حضورهم.
وحتى لا ننسى الوقائع، فقد أثارت هذه المذكرة حينها استياء كبيرا اضطرّ معه الوزير الداودي إلى محاولة الخروج من المأزق الذي وضع فيه نفسه بعد أن وُجّهت له انتقادات شديدة وصلت إلى حد اتهامه بانتهاكه حقا من الحقوق التي يكفلها الدستور، وهو الحق في التعليم واستكمال الدراسة. وكلنا نتذكر كيف اضطر الداودي إلى إخراج تأويل غريب لما تضمنته تلك المذكرة، نفى فيه أن يكون قد منع الموظفين من استكمال دراساتهم الجامعية، بل فقط شدّد على إلزامية الحضور في كل الدروس من أجل الرفع من مستوى التحصيل العلمي للطالب.. وحتى يخرج من هذه الورطة دبّج الداودي مذكرة أخرى وجهها إلى رؤساء الجامعات يشترط فيها لقبول تسجيل الموظف الترخيص له من الإدارة التي يعمل فيها، ليرمي بذلك النار في ملعب آخر بعيدا عن ملعب وزارة التعليم العالي.
وحتى نسترجع الأحداث والوقائع، فإن وزارة التربية الوطنية، المعني رقم واحد بهذا الموضوع، بحكم أن أغلب الموظفين الراغبين في استكمال دراستهم الجامعية ينتمون إليها، فهمت الرسالة في عهد الوزير "المشاكس" محمد الوفا، فرفضت أن تبتلع الطعم، وقدمت تراخيص بلغت، حسب مصادرنا، أكثر من 30 ألف ترخيص، وخرج السيد الوفا من هذه المشكلة سالما غانما؛ أما السيد رشيد بلمختار فقد ابتلع الطعم، وجارى الداودي في قراره، مؤكدا أنه سيمنع الموظفين من الترخيص. وهكذا فوجد نفسه أمام طوفان من الاحتجاجات النقابية، لم تنفعه معها محاولة نسبة القرار إلى رئيس الحكومة، فيما الحقيقة أن الداودي هو صاحب هذه "الفعلة"، التي ستسجل بمداد من الخزي والعار في ميزان سيئاته.
هذه الوقائع، وغيرها كثير، تكشف جانبا من الازدواجية التي تحكم مواقف فريق العدالة والتنمية في التعامل مع الوزراء، ذلك أن هذا الفريق يفضل الصمت المطبق تجاه القرارات الخطيرة التي تمسّ حقوق المواطنين إذا صدرت عن وزرائهم، لكنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا صدرت من وزراء آخرين، ويستغلون ذلك لأهداف سياسية لا تخطئها العين.
والحقيقة أن هذا مجرد مثال واحد، وإلا فهناك العشرات من الأمثلة التي التزم فيها فريق العدالة والتنمية صمتا طويلا، ولم تحرّكه المبادئ والقيم لمساءلة بعض تصريحات وقرارات وزرائه. نعم، لم نسمع أيّ تحرك من صقور هذا الحزب أو حمائمه حول تصريحات سابقة للداودي أساء فيها إلى طلبة شعب الآداب والدراسات الإسلامية، التي تعدّ حاضنة للإسلاميين. تصوروا لو أن وزيرا آخر غير الداودي صدرت عنه مثل هذه التصريحات المسيئة.. أكيد أن هذا الوزير "المسخوط" سينفى من الأرض وستقطع يداه ورجلاه من خلاف على أعمدة "التجديد" وعلى جميع المواقع الإلكترونية المحسوبة على الحزب الحاكم.
والواقع أن أي وزير لم يجرؤ، في تاريخ الحكومات المغربية كلها، على إعطاء تصريحات مسيئة إلى شُعب الآداب والدراسات الإسلامية مثلما ما فعل الداودي؛ ومع ذلك، مرت هذه القضية بردا وسلاما ولم يتحرك الحزب الإسلامي لإدانة تصريحات الداودي المسيئة إلى "الهوية الإسلامية" ولم يطلب منه تقديم أي توضيحات، بل حتى جريدة "التجديد" المدافعة عن هذه "الهوية" التي أهانها الداودي، صامت عن الكلام.
هكذا يتبين بالملموس أن مشكلة منع الأساتذة من استكمال دراستهم الجامعية هي، في أصلها، من إنتاج وإخراج خالصين لحزب العدالة والتنمية في شخص الوزير الداودي وليس الوزير بالمختار، الذي هاجمه الجميع ظلما وعدوانا، بعد أن خانته خبرته السياسية خلافا لسابقه الوزير الوفا. وهكذا تورّط بلمختار في هذا الملف، ليغطي عن سوء تدبير الوزير الداودي ويتحمل سيئاته، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
لا نبتغي بذكر هذه الوقائع الإساءة إلى شخص السيد لحسن الداودي ولا التحامل على حزب "العدالة والتنمية"، الذي ينتمي إليه، رغم أن قياديين في هذا الحزب عارضوا استوزاره في حكومة بنكيران، ولن نضع أنفسنا في يوم من الأيام في خدمة أي وزير لتلميع صورته أو تبرئته، إنما نريد فقط أن نكشف بعض أمراض السياسية التي أصابت كل الأحزاب، ولم ينج منها حتى العدالة والتنمية، الذي يقدم اليوم نفسه على أساس أنه الحزب الطاهر المدافع عن القيم.
الواجب الأخلاقي -وليس السياسي فقط- يفرض على فريق العدالة والتنمية في هذه القضية أيضا أن يحاسب وزيره السيد لحسن الداودي، الذي أدخل قضية استكمال الموظفين لدراستهم الجامعية في هذا النفق المظلم، وليس من الإنصاف في شيء أن يفعلها الداودي ويحاسب عليها السيد بلمختار، فللمغاربة حكمة معروفة في ذم من يقتل الشخص ويمشي في جنازته.