من أغرب ما ورد علي في بريدي الإلكتروني ونشرته بعض المواقع مع نهاية عطلة الصيف ما أذاعته قناة تلفزية جزائرية "قناة النهار" من وجود مؤامرة مغربية لتدبير أحداث "غرداية" التي راح ضحيتها سكان هذه المنطقة من الأمازيغ المزابيين، الذين تعرضوا لكل أنواع التنكيل في ما يمكن اعتباره حرب تصفية حقيقية مع سبق الإصرار والترصد، بتخطيط من السلطات الجزائرية منذ عقود من الزمن كنا فيها أطفالا صغارا لا نبرح حاراتنا. كان الخبر مفبركا بطريقة تبعث على الضحك المرّ، تمّ فيها إقحام إسمي لمجرد أنني التقيت بالسيد كمال فخار (طبيب ومناضل من أمازيغ غرداية) في المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية بطنجة خلال شهر غشت المنصرم، فاعتبرت في التقارير الأمنية الجزائرية "وسيطا" بين النظام المغربي وأمازيغ غرداية لإحداث القلاقل في الجزائر المستقرة الآمنة التي لا يأتيها الشرّ إلا من جيرانها المغاربة، ولم يجد الأمنيون الجزائريون بدا من إضافة بعض التوابل مثل ربط المؤامرة المغربية كلها ب" إسرائيل" لكي يسهل هضم الأكاذيب من طرف البسطاء والسذج من الناس، تماما كما كان يفعل العقيد الليبي غير المأسوف عليه كلما ذُكر الأمازيغ والأمازيغية. فمن النكات التي أصبحت تروى أن المخابرات الليبية ألقت القبض سنة 2010 على باحثين أمازيغيين من المغرب كانا في مهمة لدراسة بعض المعالم الأثرية العريقة بتونس وليبيا، وبعد 17 يوما أطلق سراحهما وأعلن في بلاغ رسمي لتبرير ما أقدمت عليه السلطات الليبية، بأن الباحثين اعتقلا بعد أن اكتشف "تجسسهما لصالح إسرائيل" (!!؟).
ومن المضحكات أن تتحدث الأخبار الواردة من الجزائر هذه الأيام عن تقرير أصدره مجلس رسمي تابع للسلطة يسمى "مجلس العلماء والعقلاء في الجزائر"، اتهم فيه المغرب صراحة ب"الوقوف وراء تحريك النعرات الطائفية في منطقة مزاب، التي أدت إلى مواجهات دامية بين المالكيين والإباضيين". فإذا كان هذا ما أقره "العقلاء" في الجزائر فكيف يا ترى سيكون قرار السفهاء والمجانين ؟ وأين كانت حكمة مجلس "العقلاء" هذا عندما نصّب العسكر شخصا مقعدا فوق كرسي متحرك رئيسا للجزائر لولاية رابعة، وهو فاقد للأهلية ولا قدرة له على التواصل الطبيعي مع محيطة ؟ أليس من هؤلاء "العقلاء" من له كفاءة رئاسة الدولة وتدبير الشأن العام ؟
من حسن حظنا أن السلطات الجزائرية لم تنتبه إلى هذه اللعبة السخيفة لعبة اصطناع المؤامرات الأجنبية إلا مؤخرا وإلا لكنت ألصقت بنا أحداث الربيع الأمازيغي ب "تيزي وزو" سنة 1980 وأحداث الربيع الأسود سنة 2001 بمنطقة القبايل والتي راح ضحيتها 126 قتيلا وأزيد من 700 جريح ( وهي السنة التي عرفت بالمغرب "خطاب أجدير" وإعلان الأمازيغية "مسؤولية وطنية لجميع المغاربة")، بل ولألصقت بنا السلطات الجزائرية شبهة إحداث عشر سنوات من الحرب الأهلية التي عصفت بالبلد الشقيق نتيجة تهور العسكريين واعتمادهم أسلوب العنف الوحشي في تدبير التعدّدية في بلدهم.
أن تصل السلطات الجزائرية إلى هذا المستوى من الانحطاط فهذا يدلّ على مقدار الأزمة الخانقة التي تتخبط فيها بسبب عجزها عن حل المشاكل المتفاقمة، بما يقتضيه الأمر من حكمة وسداد رأي، فرغم ملايير الدولارات من فائض العملة ورغم كل الثروات الطبيعية التي ما فتئت تنهب من طرف الجنرالات المستبدين بالأمر في الجزائر، ما زالت الغمة سائدة وأجواء البلد مكهربة وشروط العيش الكريم وجودة الحياة منعدمة.
وفي هذا الصدد وما دامت السلطات الجزائرية قد أقحمت إسمي في تقاريرها الملفقة وغير النظيفة، أتقدم للرأي العام المغربي والجزائري بالمعطيات التالية: أنني كاتب مغربي وباحث في الثقافة الأمازيغية وناشط في مجال حقوق الإنسان، أعمل من موقع مستقل عن الأحزاب السياسية وعن السلطة من أجل إنجاح الانتقال السلمي نحو الديمقراطية ودولة القانون في بلدي، ولست مسؤولا رسميا عن أية مؤسسة عمومية كما يدعي تقرير السلطات الجزائرية.
أنني بصفتي رئيسا للمرصد الأمازيغي للحقوق والحريات (تنظيم مدني مستقل)، عملت منذ اندلاع الأحداث المأساوية في "غرداية" على إصدار مواقف المؤازرة والدعم المعنوي لأمازيع مزاب الإباظيين ضدّ ما يلحقهم من أذى مباشر وتقتيل وإحراق بيوت وانتزاع أراضي على مرأى ومسمع من السلطات الجزائرية التي وقفت بجانب المعتدين من المتطرفين، بهدف تصفية أمازيغ امزاب الذين يعتنقون المذهب الإباظي منذ أزيد من 12 قرنا. ونعتمد في هذا الموقف الذي أعلنا عنه معطيات دقيقة من التاريخ ومن الواقع الراهن، ومعنا في هذا الموقف جميع مكونات الحركة الأمازيغية المغربية والجزائرية بدون استثناء، وقد قامت بعض الجمعيات الأمازيغية بمحاولة تنظيم وقفات احتجاجية أمام السفارات الجزائرية منعتها السلطات المغربية، كما كانت تمنع دائما احتجاجات الأمازيغ أمام سفارات ليبيا والجزائر.
أنني لم أتعرف على السيد كمال فخار الناشط المدني المزابي لأول مرة إلا في طنجة قبل ثلاثة أسابيع من هذا التاريخ، ولم يكن لي به سابق معرفة مباشرة على الإطلاق قبل ذلك. وقد استدعيت إلى مهرجان طنجة للإسهام في ندوة فكرية بجانب الروائي المصري صنع الله ابراهيم والكاتب المغربي عبد الرحمان طنكول، بينما استدعي كمال فخار للإسهام في ندوة تتناول موضوع الأمازيغية في إفريقيا والتي كان عليه أن يبرز فيها وضعية أمازيغ "غرداية" المزابيين ومعاناتهم، ويشرح خلفيات الأحداث التي تعرفها تلك المنطقة. وقد شارك معه في نفس اللقاء مناضلون من "أزواد" ومن بلدان أخرى من إفريقيا. ولهذا فما ورد في التقرير الجزائري من أنني ساهمت في لقاءات قبل أحداث "غرداية" وبعدها مع نشطاء جزائريين من منطقة "غرداية" أمر يبعث على الاستغراب.
إن ما حزّ في نفس السلطات الجزائرية هو تنويه السيد كمال فخار بالتجربة المغربية في تدبير التنوع الثقافي واللغوي، والتي اعتبرها رائدة في المنطقة مقارنة بالبلدان الأخرى، وخاصة الجزائر التي ما زالت تعتبر الأمازيغية طابوها سياسيا خطيرا وتتعامل مع الأمازيغ بأساليب القمع والاضطهاد.
أن حقيقة ما يحدث في "غرداية" بالجزائر هو وجود مخطط للسلطات الجزائرية منذ الاستقلال (والذي أصبح أكثر بروزا منذ 1975) لتعريب أمازيغ امزاب الإباظيين وتنميطهم على مقاس التوازنات الداخلية للسلطة المركزية بالجزائر، والتي تبنت منذ فجر الاستقلال نهجا اشتراكيا قوميا عربيا متشددا، وهو المخطط الذي اعتمدت فيه مصادرة الأراضي عنوة وتفويتها للعرب المالكيين في خرق سافر لكل القوانين والأعراف المعمول بها، كما اعتمدت أساليب الزبونية والمحسوبية والرشوة لخلق التمايزات ولتحريض طرف ضدّ الآخر، مما أدّى إلى مشاكل اجتماعية عديدة وخلق الشنآن والبغضاء بين المواطنين الذين هم إخوة في انتمائهم إلى الوطن الواحد مهما اختلفت لغاتهم وألوانهم ودياناتهم. وقد استعملت السلطات الجزائرية كذلك مؤسسات الدولة المركزية كالتعليم والإعلام ، ولجأت إلى كل أنواع الحصار التي منها حظر التنظيمات المدنية وعرقلة إنشائها، وتشديد الرقابة البوليسية على النشطاء من مثقفين وفنانين. هذا وليس التواطؤ مع المتطرفين وتسليطهم على أمازيغ امزاب المسالمين مؤخرا إلا دليلا على فشل كل المخططات السلطوية للاحتواء والتنميط. ومن تم فحقيقة الصراع في "غرداية" لا يتمثل في وجود مواجهات طائفية بين الإباظيين والمالكيين حدثت بالصدفة، بل في وجود صراع بين أمازيغ امزاب والسلطة التي لا تعترف بوجودهم ولا تحترم ثقافتهم، وهي التي تصنع الطائفية وتحرض طرفا ضد آخر، مما يحدث القلاقل والصراعات والفتن.
إن خصوصيات أمازيغ امزاب اللسانية والثقافية والدينية هي إرث جزائري عريق، على الدولة الجزائرية رعايته وحمايته وليس التربّص به والسعي إلى محوه واضطهاد أهله بطرق وحشية. وفي حال استمرار السلطات الجزائرية على هذا النهج فسيكون من حق الأمازيغ المزابيين أن يلجأوا إلى المنتظم الحقوقي الدولي للتعريف بقضيتهم وحماية أنفسهم، والضغط على النظام العسكري الجزائري ليرفع حصاره عن منطقة "غرداية" ويسحب زبانيته الذين يسلطهم على السكان الأمازيغ.
إن أحداث "غرداية" ليست جديدة أو غير مسبوقة، بل سبق أن اندلعت مثيلاتها من قبل لنفس الأسباب المذكورة آنفا، ووحدها السلطات الجزائرية تحاول إيهام الناس بأنها ظاهرة جديدة من تدبير المغرب. وإذا كان من حق الناس أن يتساءلوا كيف تعايش الأمازيغ الإباظيون مع العرب المالكيين على مرّ القرون دون أي مشكل، فمن حقهم أيضا أن يتساءلوا عن الأسباب التي جعلت المشكل يظهر فجأة بعد استقلال الجزائر واستيلاء العسكر على السلطة.
لقد دعت منظمات دولية ومنها "هيومن رايتس ووتش" السلطات الجزائرية إلى تحمل مسؤوليتها وتشديد العقوبات على المتورطين في جرائم التخريب والحرق، وهو ما يعني أن لعبة السلطات الجزائرية قد انكشفت وظهر جليا تواطؤها مع المخربين، وإسهامها في إشاعة الذعر والهلع وسط السكان، لأهداف لم تعد تخفى على أحد.
إن الحركة الأمازيغية في كل من المغرب والجزائر متشبثة بوحدة البلدين واستقرارهما، وتعتبر أن المطلوب هو ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة وإنهاء كل أشكال الميز التي تهدر كرامة المواطنين، بما في ذلك الميز بسبب الدين أو المذهب أو اللغة أو العرق أو النسب العائلي أو اللون ..
خلاصة على سبيل العبرة:
ثمة مثل شعبي أمازيغي يقول: « yan irfsn kra ihlbt » أي : "من أعدّ طعاما (بطريقة عشوائية) فليأكله"، وهو مثل يدلّ على ضرورة تحمل كل واحد تبعات ما تجنيه يداه عوض البحث عن كيل الاتهامات لغيره.