ربما سيسجل التاريخ لعبد العالي حامي الدين كونه أول إسلامي يستعمل كلمة "رجعية"، ويتهم جهة ما بأنها كذلك. قبل مدة كان الرجعي في ثقافتنا السياسية هو الإسلامي وهو المخزن وهو القوى اليمينية المحافظة، ولم يكن أحد يتوقع أن يأتي قيادي في حزب العدالة والتنمية ويجزم أن هناك تيارات رجعية داخل المؤسسة الملكية تحارب الإصلاح.
إنها جرأة على اللغة وعلى المعنى، وسيسجل التاريخ ذلك بمداد من فخر لحامي الدين، وأنا معه، فاللغة لمن يستعملها، ولمن يملكها، تماما كما الأرض، وليس من المعقول أن تبقى كلمة رجعية مرمية في الطريق ومهملة ولا أحد يستعملها، كما أنه من غير المعقول أن تبقى حكرا على جهة لم تعد موجودة، جهة غادرت بيتها وتركته مهجورا.
أنا مع حامي الدين وإخوانه، ولا أعتبر ما قام به سرقة للمعنى أو تحريفا له، وكل ما فعله أنه وجد كلمة مرمية في الطريق بعد أن تخلى عنها أهلها وأخذها لنفسه. هذه ليست سرقة، ولا يمكن أن نلوم شخصا وجد بيتا خاليا من أهله وسكنه اتقاء للبرد، فالبيت لمن يحتاجه، ولا يمكن أن ينتظر حامي الدين أصحاب البيت ويموت هو من البرد.
إلى غاية أمس كان حامي الدين في نظر خصومه هو الرجعي والظلامي، ولأن اللغة لا تقبل الفراغ، وإذا لم تستعمل الكلمات فإنها تموت، فقد لجأت الرجعية إلى حامي الدين وقالت له خذني، فأخذها وانتقم لنفسه.
لقد خرجت الرجعية من فم عبد العالي حامي الدين مثل العسل، بلا معنى، أي نعم، وغريبة، لكن لها مفعول سحري وانقلابي، فليس هناك أجمل من تستحوذ على معجم خصومك، وتنتزع منهم أعز مايملكون.
وإذا كانت من ثورة قد وقعت فهي هذه: الاستيلاء على غنيمة اللغة والمعنى، حيث يصير الرجعي تقدميا، والإسلامي المحافظ حداثيا.
حسب علمي فحامي الدين أستاذ، ولا أعرف كيف يمكن أن يشرح لطلبته كيف أن هناك تيارات رجعية في المؤسسة الملكية تحارب العدالة والتنمية.
لقد صار تعريف الرجعية مع حامي الدين هو التالي: الرجعية هي الآخر وهي كل من يختلف معي ويقف في طريقي، وليذهب التاريخ والمفاهيم والماركسية التي تحدثت عن الطبقة المتوسطة والبورجوازية والرجعية إلى الجحيم.
طبعا يعرف حامي الدين ماذا تعني الرجعية، لكنه في الغالب لم يستعملها في القسم بل في شارع السياسة فحسب، الذي يمكن أن تقول فيه ما تشاء ولا أحد يحاسبك، إنه مجرد شارع والغلبة فيه لمن يصرخ أكثر من غيره، ولمن يجد من يصفق له، ولمن يمتلك شجاعة السطو على الكلمات وتوظيفها في غير محلها.
هذا زمن مسخ، يختلط فيه الحابل بالنابل، ويصير الشيء هو نقيضه، ويظهر فيه محافظون يدافعون عن الحداثة، ويصبح فيه التقدميون رجعيين والرجعيون تقدميين، واليمين يسارا واليسار يمينا، ولن نفاجأ غدا بأفتاتي طلائعيا، ولا بالسلفي ديمقراطيا، ولا بالريسوني لائكيا، إنها مهمتهم النضالية والجهادية الجديدة: إفراغ الكلمات من معناها وانتزاعها من سياقها ومن أصحابها الحقيقيين.
لقد فهم حامي الدين الدرس جيدا: ليس المهم الآن محاربة اليسار والتقدميين والليبراليين والحداثة، هذا كله كان في الماضي، ولم يجن من ورائه إلا المتاعب والسجن والاتهامات، بل المهم هو أخذ وعاء المعنى وتطويعه ليصبح مثل الدلو المثقوب، مهما سكبت فيه من السوائل يبقى فارغا، فالكلمات للجميع وليست حكرا على أحد، وهذا تماما هو فهم الإسلاميين للديمقراطية، فبعد أن كانوا يكفرونها هي الأخرى ويعتبرونها عدوا، اكتشفوا في نهاية المطاف أنها مجرد كلمة ومن السهل غسلها وجعلها خالية من المعنى وصالحة للاستعمال في مطبخهم الخاص.