تربط المغرب بمالي علاقات تاريخية عريقة، لذلك كانت المملكة سباقة للتنديد بمخطط تقسيم مالي بعد اعلان حركة تحرير الأزواد الإستقلال عن باماكو، وشاءت الأقدار يتحول مسعى شعب الطوارق إلى كابوس بعد أن اغتصبت جماعات الإرهاب حلمها بتحالف جماعة أنصار الدين السلفية مع إرهابيي القاعدة وإمارة الصحراء بزعامة مختار بلمختار أو «مسيو مارلبورو» كما يلقبونه لضلوعه في تهريب البشر والسجائر قبل الكوكايين والحشيش. تطورت الأمور بسرعة وغيرت حركة الأزواد موقفها من الإعلان عن الإستقلال إلى الدعوة للإعتراف بالحكم الذاتي في شمال مالي إسوة بالمشروع الذي قدمه المغرب في صحرائه لإنهاء نزاع مفتعل دام لعقود.
شعب الطوارق تربطه أيضا بالمغرب علاقات متينة، فهو جزء من الشعب الأمازيغي ببلاد تامازغا الممتدة في ربوع شمال افريقيا من سيوا بمصر إلى جزر كناري وبوركينافاصو والنيجير ومالي وليبيا وتونس والجزائر، وهو الإقليم الوحيد الذي ظل محافظا على عادات أمازيغية اندثرت في بقية المناطق وهم الذين احتفظوا بكتابة تيفيناغ أيضا قبل تبنيها في المغرب حروفا لكتابة الأمازيغية.
ثقافة وهوية الأزواد التي يعد المكون الأمازيغي في صلبها، جعلت حركة تحريره تنادي بدولة ديمقراطية علمانية في شمال مالي في إطار السيادة المالية، لكن المشروع المتطرف للقومجيين المتأسلمين من مافيات الإتجار بالكوكايين وفي الدين من عصابات الإرهابيين عارضت هذا الإختيار لأنه يهدد إيديولوجيتها في العمق وضد التسامح والتعايش الذي يقترحه الأزواد.
لكن الصراع الدائر في مالي يخفي حقيقة أخرى، وهو أن حركة تحرير الأزواد الممثلة للشعب الطارقي وجدت في الربيع الديمقراطي الذي اجتاح دول المنطقة خاصة ليبيا فرصة لتجديد مطلبها التاريخي وهو الإستقلال عن الحكومة المركزية في مالي، واقتنعت في الأخير بمطلب الحكم الذاتي كالذي اقترحه المغرب كأساس للتفاوض مع انفصاليي البوليزاريو.
لم يكن ذلك من الممكن في عهد القذافي الذي نصب نفسه ملك ملوك افريقيا، وهو الذي أباد الطوارق والأمازيغ ببلاده حتى لا يعلو سوى صوت القومية العربية بها، ولم يكن يروقه أن يتنفس شعب الطوارق نسيم الحرية، وسارت الرياح عكس ما خطط له بعد مقتله ببزوغ الهوية الأمازيغية من جديد في ليبيا. ليست ليبيا وحدها من كانت تتحكم بقضبة من حديد في مصير الأزواد، بل السلطات الجزائرية أيضا، ففي نظرها فأي حكم ذاتي للأزواد في شمال مالي يعني أن مشروعها لإنشاء دولة قزمة في الصحراء المغربية سيتلاشي، وستتنامى معها مطالب الطوارق بجنوب بلادها الغنية بالغاز والبترول وهي التي تستنزف أراضيهم وخيراتها، وذات الأمر بالنسبة لمنطقة القبائل التي تطالب منذ عقود بمنحها ليس الإستقلال ولكن الحكم الذاتي فقط...
لذلك كان للمقترح المغربي لمبادرة الحكم الذاتي وقعا في المنطقة كلها، لأنه سيتيح لكل المطالبين بالإنفصال متنفسا آخر يجعلهم يسيرونهم شأنهم المحلي باستقلالية تامة لكن أيضا تحت سيادة الدول التي ينتمون إليها، وقد أظهرت تجارب دول المنطقة أن الدول الضعيفة تظل لقمة سائغة للإرهابيين وكارتيلات التهريب الذين ينفدون أجندة قوى لا يهمها تحقيق الأمن والإستقرار في المنطقة، بل يعكس تضارب مصالح لوبيات متحكمة في الأنظمة الإستبدادية في الجزائر نفسها تحت قيادة الجينرالات وأيضا قيادة البوليزاريو التي ترفض أن يشم الصحراويون نسيم الديمقراطية ويقطعوا مع عهد الحزب الوحيد المتمثل في جبهة الساقية الحمراء وواد الذهب.
المغرب وجد مفتاح حل مشكلة النزاع المفتعل في صحرائه باقتراحه الحكم الذاتي الواقعي والجدي، والطوارق بدورهم قدموا الحل الأمثل لإدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم وتحت سيادة دولة مالي قوية تكفل لهم حقوق المواطنة، لكن دول الجوار خاصة الجزائر ومعها مرتزقة البوليزريو لن يستوعبوا الدرس حتى يحول الإرهابيون حلفاء مافيات التهريب الساحل والصحراء لبركة من دماء.