منذ أيام حضرت بمراكش لقاءا خاصا للباحثين في المركز المغربي للعلوم السياسية والإجتماعية الذي يترأسه عالم السياسية البروفيسور محمد الطوزي.. طيلة يومين من المداخلات فوجئت حقيقة بالإمكانات والقدرات التحليلية الهائلة لشباب من خيرة ما أنجبت الجامعة العمومية المغربية.... لكن ما أقلقني هو أن تكون مؤسسة أجنبية هي من تكلفت بتمويل أبحاث حول المغرب، وإن كانت تشكر على ما تقوم به ولا تهمني في هذا المقام أهدافها ولا مراميها، ففي غياب الدولة وميزانيات الجامعات التي لا نعرف أين تصرف حقيقة لا يمكن غير اللجوء لتلك المؤسسات لتطفئ عطشنا اليوم لفهم كل صغيرة وكبيرة عن بلدنا... للأسف إنه البؤس الذي مابعده بؤس.
فهمت أن بجامعاتنا كفاءات، وفهمت أن هناك من يحاول أن يتلدذ بعقمها لتتدفق الأفواج من الطلبة على المعاهد والجامعات الخاصة، بل فهمت لم تخسر الدولة سنويا المئات من الباحثين الشباب بعد أن تصرف عليهم الميزانيات الطائلة... فهمت لماذا يعين عمداء كليات رغم أن مسارهم العلمي قد لا يشرف، ولولا ذلك لما أرغم الطوزي وطلبته التحليق بعيدا عن فضاء كلية الحقوق البيضاوية ليحطوا الرحال في مكتب صغير أكثر أريحية في كلية الآداب بعين الشق ليؤسسوا به مركزا للأبحاث، واضطروا للإستغناء حتى عن تسمية «السياسية» ليتحقق حلمهم.. إنه بؤس المسؤولية حين تمنح لمن ليس أهلا لها...
لكثير من عمداء الكليات ورؤساء الجامعات، أقول ... ارحلوا.. فالجامعة لم تعد مكانا لأمثالكم... وأقول أيضا ارحل لكل رجال الداخلية مدراء الأحياء الجامعية الذين فرضوا في عهد أم الوزرات ليراقبوا الطلبة ويتمادوا في اذلالهم .. كفى لتبعية الجامعة لوزارة الداخلية.. ارحل أيها الحرس الجامعي.. اتركوا الجامعة صرحا للبحث العلمي.. فمغرب الغد بحاجة لكل طاقات شبابه...
أتأسف أن الجامعة لا تزال تعيش المحنة، وتئن تحت قيود السياسة الأمنية... وإن كانت على قيد الحياة عكس معهد تم وأده واغلاقه تماما في العهد القديم بقرار سياسي فوقي لأسباب واهية، وكأنه مدرسة لتكوين المعارضين السياسيين وليس علماء الإجتماع، ذلك كان في زمن كان بلدنا فيه بحاجة لمثل ذلك المختبر لفهم تحولات المجتمع والظواهر الذي ظهرت في ظل سيرورته وانتقاله. نحن اليوم في حيرة من أمرنا لا ننعرف ما يعتمل داخل مجتمعنا ولا القيم السائدة فيه، ونكتفي بالتسطيح والتبسيط فتضيع الحقيقة ويسود الإلتباس، فالبلاد تمر بمنعطف هام في تاريخها، والدراسات التي يمكن أن تواكب هذه التحولات نادرة جدا أكثرها ينجز في جامعات غربية، في حين تقف جامعاتنا موقف المتفرج دون أن تعين أبناءها لينتجوا ما ستستفيذ منه المؤسسات والمنظمات السياسية.
نتشوق لعودة زمن معهد الدراسات العليا المغربية وعهد الراحل بول باسكون ولازاريف وميشو بلير ثم روبير مونطاني وجاك بيرك وديل ايكلمان، جون واتر بوري، وكينيت براون، وعبد الكبير الخطيبي ومحمد الطوزي ومحمد المهدي ومحمد وبودربالة وأحمد عريف وحسن رشيق، و سعيد بنسعيد، محمد جسوس، عبد الله حمودي، رحمة بورقية، ورقية المصدق، وفاطمة المرنيسي، وإدريس بنسعيد، المختار الهراس، عبد الصمد الديالمي وعبد الرحمان لخصاصي وكبير الباحثين محمد الشرقاوي صاحب الدراسة حول الزواج بالصحراء وغيرهم...
نحتاج اليوم جامعات تنجب خلفا لسلف بصم البحث العلمي الإجتماعي لسنوات، وننتظر أن تشفي تحليلاتهم الغليل لنعرف لم يقول المغاربة عكس ما يعتقدون، لم هم حداثيون وعلمانيون بالسليقة ويترددون في قولها؟، لم يدعون أنهم مع قيم المحافظة وهم يعيشون الحياة في أبهى تمظهراتها العصرية؟...
لا نريد أن تستمر محنة الراحل عبد الكبير الخطيبي حتى في قبره بعد اغلاق معهد علم الإجتماع الذي كلف بإدارته، كان ذلك في فترة كان فيه المجتمع المغربي يبحث عن سبل الخروج من مرحلة التبعية وبحاجة لدراسات ميدانية تواكب السياسات العامة للدولة، لكن شاءت السلطة الحاكمة أن توقفه في المهد وتحول دون بزوغ مدرسة لتخريج جيل من الشباب المغاربة ممن يمتلكون آليات وأدوات فهم مجتمعهم دون الحاجة لتسول الدراسات من معاهد غربية... وهو أعز ما يطلب اليوم أيضا..
لا نريد أن يستمر انسداد أفق السوسيولوجيا وكل العلوم الإجتماعية والسياسية في بلدنا، فلا المعهد الجامعي للبحث العلمي ولا معهد الدراسات الإستراتيجية سديا الفراغ، لذلك ظل البحث الإجتماعي ينتج على هامش تلك المؤسستين، ولا يزال يعيش المحنة ذاتها والتي جعلت العديد من الباحثين على الهامش أيضا، و لا تستفيذ سوى المنظات الدولية وبعض الهيئات المقربة من أنظمة غربية من جهودهم العلمية، خاصة أن البحث العلمي لا يحظى بالإهتمام ولا تخصص له الميزانية الكافية، ولذلك وصلنا إلى حد أننا نجهل إلى أين يسير مجتمعنا.. فرجاءا أعيدوا الإعتبار للجامعة وللبحث العلمي وأعيدوا لنا معهد السوسيولوجيا...