لم أرها منذ عشرين سنة أو أكثر. اسمها فرس النبي. وكنا نناديها ونحن صغار ناقة بابا ربي. وكانت الوالدة تقول لي لا تعتدي عليها إنها قديسة. لا تلمسها ولا تجرحها إنها تصلي وتعبد الله. عرفت في ما بعد أنها حشرة راهبة في معظم الثقافات، إلا العرب أطلقوا عليها لقبا ثانيا هو السرعوف، رغم أن ذكرها لا قيمة له، وتلتهمه من رأسه، بعد أن تقضي وطرها منه. اليوم، جاءت وحطت على شرفة البيت، ثم دخلت مباشرة إلى المطبخ، خضراء كعادتها وطويلة العنق، وأتذكر أننا كنا نسخر من فتاة صغيرة في المدرسة، ونعيرها بأنها تشبهها. أحسست كما لو أنها تعرفني، وتلومني لأني تنكرت لها، كما لو أنها تتحدث إلي وتحرك رأسها وتقول كم تغيرت. كم نسيتني. زوجتي ظنت أنها جرادة، فصححت معلوماتها، وأكدت لها أنها ناقة الله، التي كانت تعيش معنا في الطفولة، حين كنا نعذب الجعل ونصنع منه حصانا يجر علبة كبريت، وحين كنا نصنع من الدعسوقة طائرة نفاثة، بينما كنا نوقر فرس النبي، ونخشاها، ولا نقترب منه، لئلا يعذبنا الله. وأنا صغير، كنت أكلم الحشرات، وألعب معها، وأتحرش بها، فأحرك عش الدبور بعود وأهرب، وأقدم وزغة لذيذة لصديقاتي النملات، أصطادها وأضعها في الغار، لتتغذى بها، وكنت أقص جناح البعوضة، وأمعس الصرصار بحذائي، وأشوي عصفور الدوري وآكله بعظامه الرقيقة، وكنت أخاف من رضاعة البقر، وأظنها أفعى، بينما هي طيبة ولا تؤذي أحدا. لم أعرف بأي طريقة سأرد على فرس النبي، وقعدت أتفرج عليها وأنا صامت، أنظر إليها وهي تشرئب بعنقها، كعادتها دائما، وتركتها تفعل ما تريد، لم ألمسها ولم أدفعها ولم أقل لها اخرجي، فأنا متأكد أنها راهبة، وأني مقصر في حقه لقد طردنا جميع الحشرات من حياتنا. بفعل الشقق والسكن الاجتماعي والسيارات وجشع العقار والحديد والآلات، لم تعد ولا حشرة تعيش بين ظهرانينا. ليقل لي أحد يسكن في الرباط أو البيضاء أو في أي مدينة كبرى، ليقل لي منذ متى لم ير فراشة كانت الفراشات تزورنا يوميا، ولم نكن ندري أين تذهب في المساء كانت جميلة ومرقطة وبيضاء ومن مختلف الألوان والأشكال وقد انقرضت الآن وصارت مثل الملائكة والحوريات والجنيات الجميلات موجودة فقط في الرسوم المتحركة وقصص الأطفال. لقد أفسدنا الإسمنت والحديد والشاشات المسطحة والضحى والشعبي كلنا نبحلق كحمقى في الفيسبوك كلنا نشاهد صور الطبيعة ولا نرى الطبيعة نراها فقط كذكرى من الماضي كلنا نشاهد بدهشة شباط ولشكر وبنكيران وتلفزيون الواقع وهيفا التي قالت لأعدائها قبلوا مؤخرتي كلنا صرنا عبيد الأنترنت نسيتيقظ وننام في الفيسبوك وتويتر وعندما زارتني فرس النبي اليوم انتبهت إلى نظرتها وسمعتها وهي تعاتبنا جميعا رأيتها تبكي وتصلي كعادتها وتدعو إلى الله أن ارحم البشر الذين طردوا الجمال والحياة والكائنات الصغيرة التي كانت تجاورهم وصاروا يعيشون مع الأسلاك والكهرباء والوحوش الإلكترونية وصارت الأسلاك في آذانهم وجيوبهم وشققهم وصاروا يخلصون للهاتف الذكي أكثر مما يخلصون لبعضهم البعض يوسطونه في الحب وفي أن يوقظهم من النوم الكل متوتر وعلى أعصابه ويضرب في الكلافيي ويشتم ويبحث عن وهم الحياة بينما الحياة في مكان آخر في تحليق دعسوقة تتباهى بحسنها وخفتها وألوانها الفاتنة وفي رفرفة فراشة أقول هذا في زمن صار مضحكا أن تتحدث برومانسية وحنين. لكن فرس النبي زارتني حطت الراهبة على شرفة شقتي وأنا مغلوب على أمري ولا حيلة لي وأتذكر أتذكر بغصة في الحلق وأترك مستسلما ناقة الله تؤنبني أتركها تصلي وأودعها ثم أدخل إلى الفيسبوك وأنخرط في هذا العالم في مواقع التواصل الاجتماعي وأتساءل من هو الغبي الذي اخترع هذا الاسم وصدقناه من هو هذا الشرير الذي أوهمنا بأننا نتواصل بينما كل ما نقوم به الآن هو أننا ننقطع عن التواصل الحقيقي وعن الحياة.