الى حسن نجمي والحبيب الدايم ربي ذات صيف مستهل تسعينيات القرن الماضي، عاد الشقيقان عبد القادر وبوزكري من ايطاليا إلى بلدتهما غرب الفقيه بن صالح، فبهرت سيارتهما الفارهة العيون والقلوب ودغدغت الصدور، وتحدث سكان القرية عن العملة، التي جلباها حديثا غرائبيا وذا شجون، البعض اعتبرها هائلة، ولم يسبق قط لمهاجر مغربي أن جلبها من المهجر، والبعض الآخر قال: لا الإنس ولا الجن يستطيع عدها، وأن كل ورقة نقدية يمكن أن تذبح خروفا جراء مضائها، وعلق آخر: هناك أوراق نقدية تدعوك لأخذ صورة معها نظرا لجمالها. وقال رجل ذو انف معقوف "إنكم تخرفون، وحدي أعرف أن ثمة فقيها سوسيا يجمد السوائل ويشعل النار في الثلج هو من أعد لهما تميمة ليس لها نظير، تسمح لهما بجمع المال في بلاد السباكيتي دون كلل. في بهو دار مفتوح على السماء، أملى الأب إبراهيم ذات مساء على ابنيه الزواج لإكمال دينهما، فلم يعصيا له أمرا... زغردت الأم نشوى وقالت: في القرية غير البعيدة عنا أعرف فتاتين حسناوين تفيضان حشمة، وتجيدان طهي الخبز في التنور، وتحلبان البقر باكرا، ولن أكذب إن قلت إنهما ستنجبان أبناء أقوياء نعول عليهم في الخصومات والصراعات... بعد يومين تمت الخطوبة في أجواء احتفالية حضرها أهل وجيران العائلتين، وانتهت بدعاء دعا فيه فقيه ذو لحية بيضاء للأزواج بالتوفيق في الحياة الزوجية، وبأن يرزقهم الله ذرية صالحة. استعدادا للعرس، خضع منزل العائلة لتبليط جديد من الداخل والخارج، وأغلق بئر قديم أمامه، وأزيلت من محيط هذا المنزل عجلات مطاطية منتهية الصلاحية، طالما جلس عليها الأب وأصدقاؤه للتداول في قضايا ترتبط بالحرث والصبا والعلف والفروسية وأيام المجاعة والسيبة... وحتى يكون العرس حديث القبيلة جميعها، اشترت العائلة ثورين ضخمين، بصعوبة يمشيان، وحين يخوران تنبح الكلاب وتموء القطط ويصيح الدجاج، فضلا عن ذلك وقع الاختيار على الفنان الشعبي عبد العزيز الستاتي الذي سطع نجمه آنذاك، وحين تم الاتصال به اشترط ثلاثة ملايين بالتمام والكمال لتنشيط العرس فقيل له بكل أريحية: "جاتك آسي عبد العزيز". قبل موعد العرس بأسبوع، كلف الأب شخصا خدوما للقبيلة وخصص له حصانا يركبه ليوجه دعوة حضور العرس إلى جميع سكان القرية، وأصر عليه أن يستثني شخصا واحدا يدعى "القيرع" وكان ضعيف الحال، لكنه لا يستجدي أحدا حتى وإن بات دون عشاء، لأن المال لديه "وسخ الدنيا" ولا يتهافت على جمعه إلا من نشب فيه الجشع مساميره.. ليلة العرس أحاطت بالمنزل سيارات كثيرة، معظمها يحمل لوحات أجنبية، وارتدى المدعوون ملابس قشيبة زادتها أضواء المصابيح الوهاجة لمعانا... ولشدة الأضواء التي كانت تؤثث المنزل ومحيطه كان ذلك المنزل أشبه بسفينة وسط بحر في ليلة ليلاء. على متن سيارتين مزدانتين ببالونات هوائية متباينة الألوان، وصلت العروسين فاستقبلتا بالطعاريج والبنادير والزغاريد وترديد أغنية "داها وداها والله ما خلاها" من طرف نساء وبنات يرتدين قفاطين وجلابيب، ويزين أعناقهن بقلائد. وكم كان وصول الستاتي لافتا، إذ تقدم لمصافحته مدعوون كثر، كيف لا وهم مفتونون بعزفه على الكمنجة، وبصوته القوي الساحر! ثم كيف لا وهناك منهم من يأكل الشوك حين تزلزل كمنجته دواخله! قال شاب يرتدي قميصا رياضيا "أنت يا عبد العزيز عزيز علي لأنك تكلم الكمنجة وحين استمع إليك يقشعر بدني فأهيم في سبع سماوات وأخيرا أبكي" ولأن الستاتي مرح وصاحب نكتة، فإنه شكر الشاب والتمس منه ألا يصعد هذه الليلة إلى الأعلى، لأنه إذا بكى لن يجد هناك من يسكته". تناول المدعوون أطباق اللحم المدثر بالبصل والزبيب، تلتها أطباق السفه، وأخيرا أطباق العنب والدلاح الذي قطع تقطيعا رائعا وديموقراطيا.. شكر أحد الجالسين إلى مائدة أكل كرم العائلة، بيد أن رجلا نحيفا ومسوس الأسنان لكزه وحدق في وجهه قائلا "كول الله يخلف للطليان آلمكلوب". القيرع الذي لم توجه له الدعوة قرر الحضور "ولي ليها ليها" غير أنه جلس القرفصاء بعيدا عن المنزل دون أن يثير انتباه أحد. كان يرتدي جلبابا ويضع على رأسه قبعة ويدخن بعنف سيجارة "كازا"، ومن حين لحين يردد بصوت مهموس "القيرع المحكور عايكون الليلة واعر بزاف" عقب الأكل مباشرة أذن للستاتي أن ينطلق ليشنف أسماع الحاضرين، فغنى أغنية حصباوية وأخرى زعرية. الأغنية الزعرية حركت السامعين وأجبرت البعض على ضرب صدورهم وتقليد أصوات حيوانات. هذا يصهل وذاك يعوي، وذلك يخور. كما دفعت شابا كرع ماء الحياة إلى سرقة رقصة قرب شيخة مكتنزة ويعود إلى الجلوس خوفا من أن تقتنصه عين المكي عم العريسين، وهو فارع الطول وحاد الملامح، وكان يمسك في يده هراوة خشنة. بصوت أجش طلب المكي من الستاتي التوقف على أساس أن يواصل العزف بعد إنهاء، ما يسمى في منطقة بني عمير ب "الزرورة" أي "لغراما" وخلالها يسلم الأصدقاء والأهل للعريس مالا أو هدايا عبارة عن ملابس أو أوان. عبر شخص يسمى البراح، والذي لابد أن يكون ذا صوت جهوري، وحاضر البديهة، وان يكون أيضا "قشاشبي" وقف البراح الملقب ب "لمنشار" وسط دائرة مكونة من النساء والبنات والى جانبه يجلس العريسان بجلبابين أبيضين دون أن يرفعا رأسيهما، وأمامهما تجلس الأم وأختها تخضبان يدي العريسين بالحناء. كان البراح يتسلم الهدايا والمال والذي كان أحيانا بالعملة المغربية وأحيانا أخرى بالعملة الأجنبية (البسيطة والليرة لأن الأورو لم يكن وقتئذ) فيعرف بصاحب الهدية أو المال على مرأى ومسمع الحاضرين. وكلما قدم صاحب الهدية أو المال حلاوة للبراح تتراوح بين خمسة دراهم وعشرين درهما وقد تتجاوز ذلك، فإنه (البراح) يبدع في رسم بورتريه شفهي جميل لصاحبة أو صاحب المال أو الهدية. دون أن يفطن له احد، دنا القيرع من البراح وسلم له درهما كحلاوة ثم أعطاه عشرة دراهم ك "غراما" ليسلمها للعريسين. بعد أن همس له في أذنه ملتمسا منه أن يقول دون تردد "ها عشرة دراهم من عند اللى كاعد في بلادو وحاضي اولادو" ردد البراح هذا الكلام وفيه بالطبع إهانة غائرة للمهاجرين الذين يتركون زوجاتهم يفعلن ما شئن في القبيلة" فانفجرت الفوضى وتعالى الصراخ واشتبكت الأيدي ووجهت لكمات قوية لوجه القيرع ورأسه. وقد تعاطف معه آخرون فوجهوا بدورهم لكمات للمعتدين على القيرع، حينها بات من الصعب والمستحيل على الستاتي مواصلة العزف والغناء في تلك الليلة فجمع "دوزنو" خوفا من أن تسقط ضحية أو أكثر تتعرض من خلالها العائلة إلى البحث والتحقيق من طرف الدرك الملكي والقضاء.. بعدما غادرت سيارة الستاتي المنزل تاركة وراءها غبارا اشتعل الأب غضبا وجحظت عيناه فاندفع نحو القيرع ليخاطبه قائلا "وادرتها بي يا القيرع وشفيتي فيا العديان. والستاتي دا ثلاثاث المنيول وما غناش مولاي الطاهر !!! " ذ/ المحجوب عرفاوي 10/04/2013