إن الحديث عن الديمقراطية في المجتمع المعاصر و في اللحظة الراهنة، تجاوز اعتبارها مجرد تلك القدرة الفردية أو الجماعية- التي تكون من الحقوق الأساسية للمواطنين- على المشاركة في الفعل السياسي و في تشكيل تلاوين و ملامح السلطة السياسية الحاكمة داخل جهاز الدولة. و التي تُمنح للمواطنين في لحظة زمنية محددة(لحظة الانتخابات) مما يجعلها تتسم بطابع الموسمية، فتظهر بظهور الوسم الانتخابي و تختفي باختفائه، مما يجعلها ديمقراطية انتخابية يكون فيها المواطن مجرد رقم في اللوائح الانتخابية و مجرد صوت في صناديق الاقتراع. بل الديمقراطية بالمفهوم المعاصر هي "ديمقراطية تشاوريه" تَمنح للمواطنين القدرة الفعل و التأثير و الانخراط بشكل مباشر و غير مباشر في الممارسة السياسية، من خلال تفعيل قدراته الذاتية المتمثلة في القدرة على الفعل و الانخراط و الإضافة، و في القدرة على النقد البناء و المؤسس، و في القدرة على المراقبة و التتبع و المحاسبة. فالديمقراطية التشاورية تتجاوز اختزال الممارسة السياسية و السلطة و الحكم في الفئة أو الحزب أو الأحزاب التي حصلت على الأغلبية من أصوات المواطنين، التي تستأثر لنفسها بأمور تدبير و تسيير الدولة والمجتمع، في تغييب و تهميش شبه تام للمواطنين، فنسقط في ما يسمى "بديكتاتورية الأغلبية". إلى اعتبار العمل السياسي و تدبير شؤون المجتمع على انه عمل و تدبير تشاركي تشاوري بين كل مكونات الطيف السياسي، و بين كل الفئات الإثنية و العرقية و اللغوية و الدينية... المكونة للمجتمع. مع ضرورة اعتبار المواطن فاعل اجتماعي و مؤثر و لاعب أساسي في أغلب القرارات و المشاريع السياسية التي سيتم اتخاذها من طرف كل المؤسسات السياسية المكلفة بتدبير و تسيير أمور المجتمع. و ذلك من خلال توفير الآليات و المنافذ المناسبة لكل المواطنين و الفعاليات المدنية و السياسية و الثقافية...و غيرها، من أجل أن يعبر كل فردا، باعتباره مواطنا كامل المواطنة، عن تصوراته و آرائه السياسية حول ما يجري و يدور في الساحة السياسية للدولة التي يحيا فيها و يدفع الضرائب لها، و يتلزم في إطارها بمجموعة من الوجبات، و المحكوم بقوانينها التي هي في الأصل نابعة من إرادته و من موافقته عليها لكي يحكم بها. وهذه المنافذ مجتمعة هي ما يصطلح عليه ب"الفضاء العمومي" ( و هو مفهوم يعود في الأساس للفيلسوف الألماني "يورجن هابرماس Jữrgen Habermas – " 1929-.... الذي يمثل الجيل الثاني للمدرسة الألمانية الفلسفية النقدية، مدرسة فرانك فورت). إذن، فما دمنا نتحدث في مغرب اليوم عن مغرب الغد، مغرب ما بعد الإصلاحات الدستورية، فلا بد أن سعى إلى تأسيس أركان هذا "الفضاء العمومي" غبر آليات تضمن له الوجود و الاستمرارية و الديمومة و الفاعلية، وتجنبه الموسمية و الارتجالية في التطبيق و الفعل، و جعله واقعا معاشا و لحظة سياسية وجودية كائنة. إلا أن هذا الفضاء العمومي ليس هبة تمنح من طرف السيستام السياسي الحاكم داخل جهاز الدولة، بل يتأسس من طرف المواطن الواعي بقدرته على الفعل و التأثير و تقديم الاقتراحات و البدائل و الحلول البناءة، بدل الوقوف في حالة السلبية و الانغلاق على الذات، و الاكتفاء فقط بالنقد السلبي الذي لا يطرح أية حلول. بل بانخراط المواطن بشكل إرادي و إيجابي، و بدون شروط أو قيود، في مناقشة كل القضايا و الإشكاليات السياسية الدائرة في مجتمعه، لكن فقط بشرط الالتزام بأخلاقيات المناقشة و الحوار العقلاني و المنفتح، و الابتعاد عن التعصب للرأي، و عدم احتقار الأفكار و التصورات المخالفة التي يتبناها مواطنون آخرون غيره. بالتالي تكون هناك فعلا ديمقراطية تشاوريه، بفضل هذا الفضاء العمومي الذي يؤسَّسُ من طرف المواطنين أنفسهم و يفتح أمام الكل دون تمييز أو استثناء، من خلال منابر و منافذ تواصلية مختلفة و متنوعة، تمكن كل فرد من تقديم الرأي الشخصي مما يجري و يطرح من قضايا و إشكاليات سياسية داخل دولته التي هي جزء من هويته المركبة، و تشكيل "رأي عام" عقلاني مؤثر،و مسؤول،و موجِّه للعمل السياسي، طبعا في حدود المعقول. إلا انه إذا كان هذا الفضاء العمومي قد ظهر و تأسس في الأنظمة السياسية الغربة، وخصوصا الديمقراطية منها، منذ مدة زمنية ليست بالقصيرة، وأعطى ثماره السياسية بشكل لا يمكن أي تكذبه العين. فإنه في الدول العربية، و منها المغرب، قد بدأت تظهر في الآونة الأخيرة بعض الإرهاصات الأولى لفضاء عمومي سياسي تواصلي تشاوري، عبر مواقع التواصل الاجتماعي( facebook خصوصا) التي مكنت المواطن العربي من أن يتواصل و يتشاور و ينخرط في مناقشة أهم الأحداث و الأمور السياسية الدائرة في مجتمعه، مع غيره من المواطنين، و أن يشكلوا رأيا عاما، و قوة ضاغطة و مؤثرة، تحولت في بعض الدول العربية(مصر- تونس...) إلى قوة تغييريه جذرية، لا يقف أمامها أي شيء. لكن "للفضاء العمومي" في معناه السياسي الحقيقي، أسس و شروط، من أهمها "أخلاقيات المناقشة" و "قوة الرأي العام". و هي ما سوف نأتي على بسطها و ذكرها في ما سيأتي من أجزاء لهذا المقال.