لكل عصر ولكل حقبة من الزمن الإنساني-الاجتماعي العربي مفهومها سياسيا خاصا. مفهوم يكون بمثابة المفتاح السري لمجموعة من الإشكاليات الاجتماعية، السياسية و الاقتصادية. مفهوم تعلق عليه مجموعة وترسانة من المشاريع، والطموحات والآمال المجتمعية. مفهوم يرجى من خلال أجرأته على أرض الواقع أن يشكل قطيعة اجتماعية و سياسية مع ماضي اجتماعي مرير بكل لحظاته السوداء، وذلك من خلال إمكانية الدخول في مستقبل اجتماعي-سياسي-اقتصادي، نوعا ما، مشرق ومغاير لما كان في الماضي . فإذا كان مفهوم "الاستقلال" قد أخذ بريقه يكتسح جل شرائح المجتمعات العربية بتضاريسها الاجتماعية والاقتصادية المتباينة، خلال مرحلة الاستعمار، والذي كان يرجى من ورائه بداية عهد جديد، بعد تصفية الاستعمار العسكري. فقد تحقق الهدف السياسي (الاستقلال) و بشكل ناقص، ولم تتحقق الطموحات الاجتماعية التي كانت تأمل من وراء "الاستقلال" أن تدخل في حقبة "الوطن للجميع"، بأن تكون للكل مكانة اجتماعية واقتصادية مغايرة ومتميزة. فكان الحلم سرابا، وتحول الحلم بالاستقلال إلى كابوس التفاوتات الاجتماعية الصارخة . بعد هذا بدأت تظهر بوادر اجتماعية–سياسية لمفهوم جديد، وهو مفهوم "الثورة" والذي حملت مشعله القوى السياسية المعارضة، فدخلت الجماهير المجتمعية البسيطة و المهمشة- في جاذبية المفهوم، وفي الخطابات البراقة و الطنانة للقوى السياسية المعارضة – مرحلة التنويم المغناطيسي فأخذت هذه القوى تسخرها لمصالحها وتواجه بها "النظام السياسي الحاكم" من خلال الركوب على موجة الإنتفاظات الشعبية( ثورة الكوميرة، ثورة الرغيف..) التي مرت منها بعض الأقطار العربية . ولم تستفق هذه الجماهير المنومة مغناطيسيا إلا على إيقاعات التنازلات السياسية والدخول في مفاوضات مع "الأنظمة الحاكمة"، من طرف هذه القوى السياسية المعارضة التي كانت تهلل صباح مساء وتردد على مسامع الشعب مفاهيم "العدالة الاجتماعية"، "والمساواة"، و"إعادة توزيع الثروات الاقتصادية"، و"قلب النظام الحاكم"... وغيرها . إلا أنه ما خفي كان أعظم، والأعظم هو أنه كان من وراء كل هذا خدمة مصالح فئات ضيقة . مرة أخرى نجحت السياسة وأحبطت المطامح المجتمعية للشعوب العربية . وبعد مفهوم "الاستقلال" و"الثورة" كان الدور مع مفهوم "القومية العربية" الذي هو الآخر قد سخرت له ترسانة مفاهيمية ضخمة، وعلقت عليه مطامح الشعوب العربية كافة. فما فشلنا فيه فرادى يمكن أن نحققه جماعة، وفي التكامل قوة، فديننا واحد ولغتنا واحدة(كما كان يعتقد)، والجغرافيا غير متقطعة، فما المانع من التوحد العربي، لأجل تحقيق التنمية المجتمعية لشعوبنا ولأجل مواجهة الأخطار الخارجية، يا له من حلم رائع، لكن الواقع مر وكانت أولى جرعات المرارة التي تجرعتها ملايين أفواه الشعوب العربية سنة 1948 وهزيمة الجيوش العربية في فلسطين، ثم سنة 1967م والعدوان الثلاثي على مصر، و ظهور بعض الحركات التحررية ذات طابع ديني أو اثني أو لغوي، داخل جل الدول العربية . ففشل رهان القومية في مواجهة الخطر الخارجي، وتسابقت الأنظمة العربية إلى الارتماء في أحضان القوى الدولية العظمى، معلنة نهاية مشروع القومية العربية، مقابل المحافظة على كراسيهم السياسية وامتيازاتهم الاقتصادية، و سعت هذه القوى بدورها لبث الفرقة و الشقاق في الصف العربي بأساليب مختلفة. مرة أخرى فازت السياسية وأحبطت آمال ومطامح المجتمعات العربية بما فيها المجتمع المغربي . هل هذه نهاية صناعة وفبركة المفاهيم السوسيو- سياسية ؟ طبعا لا، فمع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات شهدت المجتمعات العربية عامة، هبوب رياح مفهوم أطلق عليه "المجتمع المدني"، ربما يقول قائل أنه مفهوم غربي ولا علاقة له بالواقع العربي، يملك هذا الاعتراض نوعا من المعقولية، ولكن لقد تم "تبيئته" وجعله مطابقا للبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العربية، وكأنه نابع منها . وتم الترويج لهذا المفهوم الجديد على أنه وصفة سر التقدم والتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، بعيدا عن المساس بما هو سياسي، بأن تظل الأنظمة الحاكمة هي هي، من خلال انخراط المواطن في تدبير بعض شؤونه الاجتماعية و الاقتصادية دون الحاجة لان يدخل في دهاليز و متاهات العمل و الفعل. فماذا سيكون رد فعل الشرائح المجتمعية العربية التي طال بها الزمن في "قاعة الانتظار"؟ طبعا ستعلق عليه طموحاتها وآمالها المختلفة والمتعددة، التي ما فتأت تقبرها، ولكن يشدها الحنين وتعيد النبش فيها وإظهارها من جديد على أرض الواقع. فبدأت الجمعيات و المنظمات المدنية الذات الطابع النفعي العام، و بالعيدة عن الربحية و الانتفاع الشخصي و الخاص و السعي نحو العمل السياسي، بدأت تنبت كالفطر في كل الأقطار العربية، لكن سرعان ما تحولت هذه الجمعيات و المنظمات المدنية من السعي إلى خدمت الصالح العام، إلى خدمت المصالح الخاصة من خلال سيادة الاختلاسات و نهب الأموال و المنح المالية المخصصة المشاريع العمومية و للمساعدات الاجتماعية، فأصبح العمل الجمعوي مصدرا للاغتناء السريع. مرة أخرى ينزاح المفهوم عن تحقيق ما كان منتظرا منه !!! بعد كل هذه التجارب السياسية و الاجتماعي الفاشلة و المخيبة الآمال دخل المواطن العربي في مرحلة السبات، التي توقفت معها كل أشكال الحراك الاجتماعي و السياسي داخل جل الدول العربية، باستثناء بعض اللحظات الاحتجاجية التضامنية- الخجولة- مع القضية الفلسطينية، التي دخلت الآن مرحلة النسيان من الذاكرة العربية. لكن في منطق الطبيعة لكل سبات نهاية، و نهاية السبات العربي، الذي وصف من طرف البعض على انه سبات أبدي و سرمدي لانهاية له، كانت مع الشاب التونسي "البوعزيزي" الذي كان موته بداية لحياة جديد، كأنه يحي و يثبت لنا صدقية أسطورة الطائر الخرافي اليوناني "الفنيق" الذي يحترق لكي تنبعث منه حيات جديدة( إن صح التأويل). فباستشهاد البوعزيزي ظهر مفهوم " الشعب يريد..."، و فهم المعنى الصحيح و الواقعي للبيت الشعري لأبي القاسم الشابي، و القائل: "إذا الشعب يوما أراد الحياة** فلابد للقيد أن ينكسر و لليل أن ينجلي" . فمفهوم "الشعب يريد..." لم يكن من ورائه أي تنظير أو تأطير سياسي مسبق، بل كان نتاجا لإرادة الشعب، التي هي إرادة لا تنكسر ولا تقيد بقيد، بل و لا تموت. إن قولة "الشعب يريد..." المسنودة ،فعلا و واقعيا، بقوة و ضغط الشعب، و تشبثه بما يريد، كانت لها نتائج أكثر من ملاحظة و بادية للعميان !!! من خلال الإطاحة بالرئيس التونسي و بالرئيس المصري، و بنصف الإطاحة بالنظام الليبي و اليمني و السوري. و بما شهدته و ستشهده بعض الدول العربية الأخرى من تغييرات سياسية جذرية أو جزئية، كنتاج مباشر لإرادة الشعب. لكن قولة " الشعب يريد..." لا يمكن حصر مطالبها في الإطاحة بنظام سياسي متمثل في أشخاص محددين، أو تنحية رئيس بعينه، بل مطالبها الظاهرة و الخفية اكبر من ذالك بكثير، مطالبها تجتمع في مجتمع ديمقراطي، إنساني، أخلاقي، تضامني، تشاركي تفاعلي، يكون فيه الإنسان العربي شخصا و مواطنا كامل المواطنة، بدل أن تمنح له مواطنة عرجاء و صورية و منقوصة الحقوق. إلى جانب أنها مواطنة مشروطة، مشروطة بضرورة التزام الموطن بواجباته و باحترام القوانين التي هي في الأصل الضامن لحقوقه و لمواطنته. داخل دولة تتميز بنظام سياسي ديمقراطي عادل، فيها فصل واضح للسلط السياسية، و فيها تداول سلس للسلطة و لمراكز الحكم و القرار، مع سيادة المحاسبة الفورية و الآنية و العلنية، و بان يكون فيها القانون فوق الجميع دون أي استثناء. إذن إن مفهوم" الشعب يريد..." لم يكتمل بل فقط حقق في بعض الأقطار العربية إطاحة بأسماء سياسية، ولم يطح بالنظام السياسي و بالعقلية السياسية المستبدة التي هيمنة على المجتمعات العربية لعشرات السنين. إذن فهل نجح هذا المفهوم السحري في تحقيق هذه المطالب والطموحات ؟ الجواب بالنفي تكذيب لما هو على أرض الواقع، والجواب بالتأكيد والإيجاب دوغمائية إطلاقية، والأمر متروك للأحداث، والأحداث مرتبطة بالزمن، والزمن تاريخ، و التاريخ كما قال الفيلسوف الألماني هيجل- Hegelهو محكمة الشعوب و الإنسان و الفعال و الأحداث. بالتالي فالتاريخ هو من سيقول كلمته الأخيرة في هل هناك فعلا ربيع سياسي عربي؟ و هل أزهر هذا الربيع؟ و ماذا أزهر لنا؟ و ما مدى مكاسب مفهوم "الشعب يريد..."؟، و ليست التحليلات السياسية السطحية المتسرعة التي تقوم على تضخيم الوقائع و تجاوز ما هو كائن، و الخلط بين ما كان منتظرا بما تم تحقيقه بالفعل. فل ننتظر حكم التاريخ.