ولأنني صريح كحدّ شفرة الحلاقة، دعوني أقولها لكم صراحة، من منطلق أن "ما يحّس بالمزود غير للّي مخبوط به" بالعربية تاعرابت: لو أن بنكيران خرج لها "نيشان" وأعلنها للمعطلين بطاي طاي، بدون مواربة أو لفّ ودوران، ضمن تصريح حكومي رسمي لا يلومه عليه أحد، بشأن شهاداتهم الدراسية العليا: بأن يهمّوا جميعا بمسح مؤخراتهم بهذه الدبلومات، حتى يعرفوا بالكاد لها من مزية، لكان أجدى لبنكيران من تركهم يلاحقونه ملاحقات لصيقة أينما حلّ وارتحل، كظلّه الذي لن يتملص منه للأبد.." ".. في لقاء المؤتمر الجهوي لحزب البيجيدي الذي تمّ انعقاده بمدينة وجدة، بحر الأسبوع الفارط، كنت واحدا ممّن حضر أشغاله بصفتين اثنتين، أولهما لكوني صحفيا رحتُ في مهمة صحفية قصد إعداد روبورتاج حول الملتقى الذي سيترأسه الوزير الأول بوصفه رئيس الأمانة العامة للحزب، لفائدة الجريدة الوطنية التي أشتغل لحسابها مراسلا متعاونا لن أتقاضى عليه حتما ولو درهما واحدا، أنا الذي أرهقتني الكتابة بالمجّان في الصحف والمجلات منذ أمد طويل.. ولكوني أيضا معطلا (ولست عاطلا لعلمكم) رُحت ألتقط شيئا ممّا يبعث على سريان الأمل في النفس ويبّث فيها حسّ التفاؤل أو ما شابه ذلك، ويا ليتني لم أرُح، لأنني لم أجد الأمل المبحوث عنه ولا هم يحزنون، بل على العكس تماما، ألفيتُ جحافل المعطلين بأذرع تمثيلياتهم الأربعة المُداهمة للرئيس في ما يشبه الحصار يملؤون القاعة الغاصّة عن آخرها، يرددّون شعارات تزبد وترعد ويلوّحون عاليا فوق رؤوسهم بلافتات غاضبة وملتهبة وبعضها لا تقيم وزنا لأيّ خطاب يروم رأب الصدع بينهم وبين الضيف الثقيل. إحداها كبُر عندها مقتاً فطالبت بنكيران بالرحيل. بنكيران بدوره عقد حاجبيه كما يعقد لاعب لكرة القدم حذاءه الرياضي وأخرج عينيه حتى برزت العروق فيهما حمراء اللون كسمك السلمون، فعل كلّ هذا بعد أن التقط أنفاسه وشمّر على ساعديه، ثمّ ألقى خطابا شعبوياً متحفّزًا، لكنه نفث فيه سُمّا طافحا بين عروق الكلام قطّرَهُ على المحتجّين المندّدين بحضور جنابه غير المرغوب فيه، مستعرضا قوة عضلاته اللغوية في قاموس البذاءة والشتم، كما أبان عن قدرة حربية كبيرة ضدّ المعطلين أبناء الشعب / بوزبال، كجنرال محترف لا كعسكريّ مبتدئ.. ودعوني هنا أعترف له مقدّما بقدرته الفذّة في الإجهاز على حسابات الخصم، بعيون تملؤها دائما أحاسيس باردة تغلى على مهل فوق نار هادئة، إذ أبصُم للرجل الحربي بالعشرة على براعته في ردّه القصف والغارات والصواريخ البلاغية، فتحيّة عسكرية له بالقبعة كما يليق بمهابته، على رصيده الوافر من القدرة على السب والشتم.. لا أدري حقيقة ما الذي منعني حينذاك من الإقدام على بسالة، بالمعنيين الفصيح والدّارج، إذ كنت على وشك أن أستغل صفتي الأولى وأقف منتصبا أمام الحشود بعد أن أغيّر وجهي إلى قطعة خردة صدئة، صارخا بكلّ ما أوتيتُ من غريزة الصراخ، في وجه رئيس حكومتنا في أعقاب انسحاب جحافل المعطلين الذين صدحت حناجرها عاليا في صخب يتآكلهم الغضب، تاركين وراءهم الهدوء يسود أخيرا، مجيبا سعادة الوزير على سؤاله المستفز: "..هل أنتم ضدّ ثقافة الاستحقاق! بيننا وبينكم المباريات حَكَما فاصلا إذا كنتم أكفاء عن حقّ وأنا لا أخافكم.. الخوف من الله وحده (انتبهوا هنا إلى عباراته المنتقاة التي تصنع منّا عدوه اللدود في غفلة منا) وأنا لا أشتغل عند أحدكم والرّزق على الله، فهمتوني ولا لا!!" لم يتورع في ترديد عباراته الشهيرة والشريرة معاً، ثانية، وانفجرت القاعة بالقهقهات وسقط بعضهم على قفاه مغشياً عليهم من شدة الإجهاد في الضحك حتى برُزت نواجذهم، وبنكيران نفسه أتبعَ جملهُ الببغائية تلك بنصف ضحكة صفراء سرعان ما خبت، عموما انه موقف مخز يخجل فيها المواطن الصالح من مغربيته... شخصيا حينما أتذكر ذات المشهد بتفاصيله الأليمة أصاب بالغثيان وبالرغبة في التقيؤ، تقيّؤ المصران الكبير والأمعاء حتى القاع. كنت سأنتصب من مقعدي متحفزا كالصاروخ وأجيبه: لو أنّ في عروق جسم جهازكم التنفيذي دما مغربيا حقيقيا كالذي يجري في عروقنا نحن بوزبال، ليس كالذي يجري في عروقكم تماما، (واللهم ابعثني من مرقدي يوم الحشر مع بوزبال، لا من مقابر الخمس نجوم حيث الحكام والرؤساء) لمَا تجرأتم على التشدّق بما تتشدقون به.. في إشارة إلى خلاصة متمثلة في أنه لم يعُد ينطلي على أحد مثل هذا الهرف الذي لا يتوّرع معالي الوزير في ترديده في مناسبة وغير مناسبة وكأن كلامه لا يأتيه الباطل من شماله ويساره وخلفه وأمامه وفوقه وتحته، خصوصا حديثه السمج حول مسألة المباريات الوظيفية هذه، كونها ما تفتأ تطّلُ برأسها خجلى مرّةً أو مرّتين على مدار السنة بفصولها الأربعة ولياليها الحالكة السواد وسحابة نهاراتها القاتمة بالنسبة للمعطلين حتى يطالها النسيان (وعام كامل بالنسبة للمعطل حسبما يذكرون، ليس كمثله ممّا تعدون، بل يُعدّ بمثابة ألف سنة وزيادة)... أما شكل إجراء هذه المباريات ومعايير انتقائيتها وعدد المناصب التي توفرها فحديث آخر ذو شجون، وبالاختصار المفيد، مباريات الولوج لأسلاك الوظيفة العمومية، وهنا مربط الفرس، لا تعدو كونها مجرد سياسة مكشوفة تُنهج في العالم النامي فحسب، باعتبارها تخريجة صورية تمّ صبغها بلون القانون لمواجهة نزيف البطالة الحاد التي لم تكن يوما قدرا سلطهُ ربُّ العباد على البلاد، وإنما نتاج سياسي ماضوي فاقد لأيّة إستراتيجية كفيلة من شأنها حلّ المعضلة من جذورها، أو على الأقل وضع حدّ لتفاقمها واستفحالها على المديين القصير والبعيد، ومن "أعراضها" الجانبية على سبيل الاستئناس لا الحصر بروز ما يطلق عليه باقتصاد الريع.. ناهيك عن التنصيص الدستوري الصريح الذي لا يُجامل أحدا في كلّ دساتير الدنيا بتخويل مسألة التشغيل كحقّ متأصّل تضمنه أسمى وثيقة قانونية لهذه الفئة الأنتيليجنسية المؤهلة في المجتمع ومن بينها دستور المغرب الحالي والقديم على وجه سواء، فضلا عن أن الأولويات الخمس التي تقوم من أجلها أي دولة دولة للسهر على مجالاتها ضمن سياساتها العمومية تسوّغ هذا الحقّ بقوة إلزامية وهي من أجل تعميم الفائدة (السكن، الشغل، الصحة، التعليم، الأمن)، فمن هنا كانت المباريات لا تُطرح في هكذا بلدان متخلفة اقتصاديا وسياسيا قصد إفراز الكفاءات كما قد تُصوّر التصريحات الرسمية الرنانة التي دفعت العديدين إلى الانجرار وراء شرعنة طرح الدولة غير القائم على أيّ أساس قانوني من أصله، بقدر ما هي باختصار شديد سياسة هروب إلى الأمام والتملص من ملف مطلبي وحقّ مشروع بقوة الدستور الذي يقال عنه داخل مدرجات الجامعات أنه فوق أي قانون! والحال أن السياسة المُمنهجة اليوم عندنا في ما يخص ملف التشغيل، تتجه نحو إفراغ النصوص القانونية من مضامينها وإيهام الرأي العام وكذا المعطلين بعدم أحقيتهم قانونا في المطالبة بالتشغيل، وبالتالي بلا جدوى استماتتهم وسط الساحة النضالية، وما انتفاء فرص حوار الدولة مع أبنائها المعطلين وعدم اعترافها بقانونية الجمعية الوطنية لحملة الشهادات بالمغرب ونظرها إلى المعطل من خلال ثقب زاوية آلة القمع الأمنية إلا تأكيدا بارزا، هذه بإيجاز مقاربة سياسية يتمّ التعامل وفقها مع الشريحة المعطلة ببلادنا، في أفق تكريس واقع يُسهّل سحب البساط "القانوني" من تحت أرجل الطبقة الانتيليجينسية المطالبة بحقها في الشغل بدعوى الكفاءة. أما الكفاءة التي ضجّوا وأنفخوا بها رؤوسنا في الحالة المغربية، ففي البلدان العريقة التي تحترم مواطنيها ولا تعتبرهم سذجا، فالشهادة والدبلوم يعتبران آليا وفي حدّ ذاتهما كفاءة حقيقية ما دامتا تحملان خاتم الدولة الذهبي، وبمعنى سديد وأوضح، الدبلوم في صميمه لدى الديمقراطيات أبو الكفاءة والشهادة أمّها. وقبل هذا وذاك، كنت سأكون أكثر شعبوية من بنكيران وأقول له بلغة جوفاء فارغة من كلّ جوهر كما لا يفهمها أحد سواه، ولكن بشيء من الجدّ وبقليل من المعقول طبعا: أنّ قرابة نصف المغاربة الذين جاؤوا بك بشكل أو بآخر محمولا فوق الأكتاف، والزغاريد تُطلق من كل فجّ عميق، معلنة فوزك الكاسح كما لو كنت "المهديّ المنتظر" بطربوش وجلباب مغربيين يؤكدان مغربيته، والذي أرهق انتظاره الذين يسكنهم المغرب لا الذين يسكنوه، كانوا بالأمس يتوّسمون فيك الخير، كل الخير، ولكنك أجهزت على آمال كلّ شرائح المغرب وأهمها أوساط المعطلين الذين ذاقوا على عهدك ما لم يذوقوه مع عباس الفاسي ولا مع أحد غيره، فتركتَ بدلها الآلام، فقط الآلام. بعد نية اعتزامي شرح الواضحات هذه، التي عادة ما تكون من المفضحات، كنت في أتمّ الجاهزية لإعطاء محاضرة مطوّلة بشأنها لفائدة فخامة رئيس حكومة وطن يبادل الحوار للأسف مع معطليه باللكمات لا الكلمات، فتراءى لي أن أختمها بسؤال حارق ينطوي على مخزون وافر من الوقاحة والألم الذي يضطر الواحد أحيانا إلى الاستعانة به عندما تفضي به مواقف كهذه إلى أقصى مشارف الغضب، الغضب من وطن يخاصم أبناءه الذين يكنّون له سوى الحبّ والحبّ وحده، وطن لا يتوانى في إجبار أبنائه على المغادرة الطوعية والقسرية خارج حدوده، وطن يرفض اقامة علاقة حبّ حميمية مع المعطل الذي هو في الأصل ابنه الشرعي، وطن طالما رسمنا له في مخيّلتنا نجمة خماسية خضراء، دلالة عن ما نكنه له بين أضلعنا، وطن ردّدنا يوما حبا فيه حتى النخاع ونحن تلامذة الابتدائي نشيد الولاء “أرسم علمي فوق القمم.. أرسم وطني بالألوان، أنْ: متى ستقرّر سعادتكم موعد المسح الجماعي للمؤخرات في ميادين الوقفات ومعاقل النضالات بدبلوماتنا التي تضعون فوقها طابع وزارتكم المبّجلة، وتقديمه على شاكلة مشروع قانون مقترح للبرلمان من أجل المصادقة عليه وإقراره يوما وطنيا في البلاد، تحتفي به كلّ سنة بشكل رسمي أفواج الخريجين الجدد وجيوش المعطلين القدامى باسم "اليوم الوطني لمسح المؤخرات بالشواهد والدبلومات. خطرت على بالي كلّ كليشيهات هذا السيناريو (...) وأنا جالس بين الحضور بمنأى عن المقاعد المخصّصة لبعض المتنكرين في أزياء صحفية ونخبوية ومجتمع مدني، لا أعرف ما الذي دفعني إلى ابتلاع "ألمي" على الريق الناشف لا أعرف، حقيقة لا أعرف. هامش: عذرا عن الاستعارة المتضمنة لقلة ذوق، أو هي على الأصح عند البعض قلّة حياء، فليس الحياء ما ينقصنا ولا الذوق نعدمه، وإنما هناك مواقف حرجة تُفضي بنا أحيانا إلى التعبير بحرارة وتوتّر ونرفزة، وفي أحايين أخرى تتطلب منّا مجابهتها بما يكفي من الوقاحة نفسها، لكي نكون قد أعدنا الصاع صاعين، حتى نصّفي حسابنا كاملا على رأي القولة المغربية "لحساب صابون".