نظم النظام الحاكم في الجزائر يوم 12 يونيو الجاري انتخابات تشريعية وسط مقاطعة واسعة، فتحول ذلك الاستحقاق من فرصة لإضفاء الشرعية على نظام الحكم، إلى استفتاء على النظام أظهرت نتائجه استمرار الهوة بين الشعب الجزائري وبنية النخبة العسكرية والمدنية التي تسيطر على السلطة منذ الاستقلال، فقد كشفت النتائج الرسمية للانتخابات التي أعلنتها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، عن نسبة مشاركة لم تتجاوز 23,03 في المئة، لتكون بذلك أضعف نسبة مشاركة في تاريخ الجزائر. فمن أصل 24 مليون ناخب يحق لهم الاقتراع، شارك فقط 5,6 ملايين ناخب، لكن الأصوات الصحيحة الفعلية لم تتجاوز 3.6 ملايين ناخب، على اعتبار أنه تم إلغاء أكثر من مليوني صوت، إما لأن أصحابها تعمدوا إفساد بطاقات التصويت، وإما عن جهل بطريقة التصويت، لكن تقارب الأصوات الملغاة نصف الأصوات المعبّر عنها، فذلك يؤكد أن المواطنين الجزائريين ممن قرروا المشاركة كسلوك استثنائي تعمدوا توجيه رسالة سياسية للنظام، مفادها أنهم يقبلون العملية الديموقراطية عندما تكون قائمة على أسس سليمة. نسبة المشاركة التي اعتبرها الرئيس عبد المجيد تبون غير مهمة، لم تعد حالة استثنائية في الممارسة الانتخابية والاستفتائية في الجزائر، بل بات سلوكاً سياسياً واعياً ومتواتراً ينتجه الشعب الجزائري للتعبير عن رفضه لبنية النظام الممتدة منذ الاستقلال، يتأكد ذلك عند مراجعة نسب المشاركة السابقة، ففي نونبر 2020 لم تتجاوز نسبة المشاركة في الاستفتاء الدستوري 30 في المئة، وفي الانتخابات التشريعية عام 2017 لم تتجاوز نسبة المشاركة 35,70 في المئة، بينما كانت قد بلغت سنة 2012 نسبة 42,90 في المئة، هكذا يتضح أن شرعية النظام تتآكل بصفة مستمرة منذ قرابة العقد، من دون أن يقابل ذلك وعي لدى النظام بضرورة إحداث تحول سياسي يجنب البلاد السقوط في الهاوية. يمكن القول إن الجزائر دخلت يوم 12 يونيو تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية، حلقة جديدة من المواجهة المفتوحة بين نظام منغلق أضحى عاجزاً على تجديد نفسه وتقديم سردية جديدة تمكنه من الاستمرار، وبين حراك شعبي يتمتع بطول النفس وثبات الرؤية لجزائر جديدة تختلف جذرياً عما أورثه نظام أحمد بن بلة وبعده هواري بومدين، فبينما يتصرف أركان النظام العسكري الحاكم بحس تكتيكي قصير المدى، تتصرف جماهير الحراك بحس استراتيجي ينفذ إلى عمق الأعطاب البنيوية التي تهم الجزائر، فبينما يرى النظام أن تنظيم انتخابات تشريعية وسط مقاطعة أهم التيارات السياسية هي عملية استباقية لتبرير موجة عنف قادمة تحت غطاء شرعية انتخابية مزيفة، يرى الحراك أن النظام، إنما يسعى مجدداً إلى كسب نفس جديد مع الحفاظ على بنيته المغلقة في إطار نظام حكم شمولي. تفيد قراءة عميقة ومتأنية للتاريخ المعاصر للجزائر، أن النظام الناتج من الثورة الجزائرية بعد التصفيات التي عرفتها، استثمر بوعي في الإرث الاستعماري الفرنسي، حيث مثلت سردية الثورة، أيديولوجية للنظام الذي أقامته مجموعة وجدة، لذلك ليس صدفة أن نجد إلى اليوم هذا النظام يستثمر إعلامياً ودعائياً في كل ما يتعلق بتلك الحقبة، من احتفاء بروايات فرنسية عن مصير عدد من المقاومين، إلى استرجاع جماجم عدد من الشهداء والمجاهدين، كل ذلك يتم بهدفين رئيسيين، الأول يتعلق بالرغبة في تجديد شرعية النظام، وذلك من خلال التذكير المستمر بأنه سليل ثورة مجيدة، وثانياً الاستثمار في هذا العنصر التاريخي كبعد أساسي في هوية وطنية جامعة تفتقد إرث الدولة، على أن ذلك يتزامن وتغييب أسئلة محرجة خاصة عن ازدواجية التعاطي مع الحقبة الاستعمارية. فمن جهة، نجد التذكير بالمقاومة وفظاعة الفرنسيين، ومن جهة أخرى نجد القبول بالدولة وحدودها الناتجة مما اقتطعه الفرنسيون لأنفسهم من بلدان الجوار، المفارقة أن الجزائر التي لم تكن موجودة كدولة قبل الاحتلال الفرنسي، أصبحت أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا… تعليقاً على موضوع الدولة في الجزائر، يقول المفكر الجزائري الراحل محمد أركون في مقارنته بين المغرب والجزائر ودول أخرى في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إن الدولة المغربية تعرف استمرارية منذ سنة 789 ميلادية تاريخ وصول الأدارسة إلى المغرب، وبذلك تكون الملكية المغربية هي أقدم ملكية في العالم، في حين أن الجزائر لا تتوفر على هذه الاستمرارية في ما يتعلق بالدولة، حتى بالمقارنة مع تونس، حيث كانت هناك مجرد دول مؤقتة على الأراضي التي تسمى الجزائر اليوم، وبذلك يخلص أركون الى أننا لا يمكن أن نطلق على الجزائر وصف دولة ذات استمرارية كما هي الحال بالنسبة للمغرب، هذا التذكير بالحقائق التاريخية يعتبره الراحل أركون ضرورياً لفهم تشنجات الحاضر والاضطراب السياسي الذي نشهده في البلدان التي على شاكلة الجزائر، ما أنتج قيام دولة سلطوية ومن دون أهمية، هذا النقص في تراكم ثقافة الدولة أنتج نقصاً في الثقافة الديموقراطية للذهاب في اتجاه قيام أنظمة ديموقراطية، يخلص أركون. اليوم، تعيش الجزائر على وقع احتقان اجتماعي وسياسي واقتصادي، يعيد للأذهان انتفاضة 1988 التي فتحت مساراً وأفقاً للبلاد، سرعان ما حوله قادة الجيش والمخابرات، إلى نفق طويل في ما عرف بعشرية الدم، حيث دخلت البلاد في حرب أهلية، ارتُكبت فيها جرائم بشعة، كشفت التقارير بعدها أن جزءاً كبيراً منها كان من صنع الأجهزة الأمنية والعسكرية لبثّ كثير من الخوف في نفوس الجزائريين، وخفض سقف مطالب الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن الحراك الشعبي أكد أن الجزائريين وضعوا الخوف خلف ظهورهم.