المغرب التطواني يفوز على مضيفه اتحاد طنجة (2-1)    المنتخب المغربي يفوز بكأسي البطولة العربية ال43 للغولف بعجمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    أنشيلوتي يدافع عن مبابي.. "التكهن بشأن صحته الذهنية أمر بشع"    دينامية السياسة الخارجية الأمريكية: في نقض الإسقاط والتماثل    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهبي يكتب.. الفصل 47 مرة أخرى
نشر في فبراير يوم 11 - 06 - 2019

ارتفعت الأصوات من جديد، مطالبة بتعديل الفصل 47 من الدستور، بعضها صدر عن نقاش سياسي، وبعضها « رغم قلته » عن نقاش دستوري، والحقيقة أنه لا يمكن أن نجعل الدستور في خدمة السياسة، لأن هذه الأخيرة موضوع مصالح فئوية، بينما الدستور فهو أساس بناء الدولة برمتها.
وإذا كان من المشروعية أن نفكر في تعديل الدستور، فإنه من غير المشروع أن نحول الدستور إلى آلية لخدمة نزعات سياسية، أو مصالح آنية، فالدساتير لا تتغير كما تتغير الثقافة السياسية، وفي جميع الأحوال تبقى هذه الدساتير مجموعة من الأفكار غير المكتملة، فهي تتناول جماعة سياسية من أساسها كمجتمع له حكامه وسلطاته يعيش كثيرا من التحول.
فالدستور في آخر المطاف هو مجموعة نصوص مسطرة، محددة المضامين، وكلماته ذات دلالة معينة، ولا يمكن قراءته على شكل مجزوءات، ولكن كوحدة متكاملة يكمل بعضها البعض، لذلك ينفصل بشكل أو بآخر عن واضعيه وعن خلفياتهم، وحتى عن من يستعمله أو يشتغل به، لأنه قانون يحكم ويسود كمكونات وحدود وقواعد، أو كما يقول الفقهاء، « إن واضعي الدساتير يموتون تشريعيا فور صدور القانون »، والأموات كما يقول طوماس جيفرسون « ليست لهم سلطة ولا حقوق »، علما أنه لا يمكن أن نغيب أن لواضعي الدستور « رغم وفاتهم تشريعيا » نية وثقافة وخلفية تحكمت فيهم عند القيام بمهامهم، وهي مجموع كلمات ودلالات كان لها حضور في الفكر السياسي وقت وضع تلك الدساتير لحظة صياغة الأعمال التحضيرية.
وهنا يطرح السؤال الذي يعصف بالنقاش السياسي، هل نحن أمام نصوص دستورية صلبة محددة الكلمات والجمل، تستند على نية واضعيها وطبيعة دلالات لغة مرحلتها؟ أم أننا أمام نصوص مرنة قابلة لتغيير الدلالة، مرتبطة بالواقع وتحولاته وبمظاهر التطبيق العملي؟
إن تفسير الدساتير يختلف حسب تطور المجتمعات وليس حسب الأهواء، كما يفعل البعض حين يحولها إلى شعار يتعسف في استعمال ما يدعى بالتأويل الديمقراطي للدستور، وقد يقصد به تحديد المعطى الموضوعي للنص لحظة تطبيقه.
قد أكون محافظا إذا قلت بأن هذا المنحى يخالف طبيعة الدستور نفسه، الذي هو تلك النصوص الجامدة في مضمونها، العنيفة في غموضها، المحافظة في دلالتها، خاصة وأنه ليس بمقدور أي كان أن يتوقع ويتبنى كل الوقائع السياسية المستقبلية والمحتملة ليضع لها دستورا، مما يجعل أحد الفقهاء يقول « إن عدم القدرة على التنبؤ بالوقائع السياسية المستقبلية اللامحدودة، يستحيل معه الحيلولة دون أن يتسرب الشك والغموض إلى الوثيقة الدستورية »، فوقائع الحياة السياسية وتحركها وتموجها، يجعلها في كثير من الأحيان تصطدم بالنص الدستوري.
لكل ذلك، علينا أن ندرك في المقابل أن الدساتير توضع لكي يكون لها عمرا طويلا، وأن تبقى ممتدة في الحياة السياسية، لأنها تنشئ وتنظم الأسس التي يستند عليها النظام القانوني، وتضع القواعد والأصول، وترسم خريطة الحكم، علما أن كل هذه المواضيع سياسية، وتتسم في طبيعتها بنوع من الديناميكية والتحول، وتحكمها المصالح، كما أن طبيعة تطور المجتمعات تجعل المطالب متباينة، مما ينتج عنه تبني تصورات وأنساق متناقضة.
إن الطبيعة الشاملة للدستور تجعل موضوعه يتقاطع بين السياسي والاجتماعي، لأنه بقدر ما يكون الدستور جامدا، بقدر ما تكون بالمقابل التحولات الاجتماعية تتسم بنوع كثيف من الديناميكية، لذلك نطرح سؤالا حول مدى قدرة المشرعين (وهم يضعون الدستور) في استيعاب كل التحركات الاجتماعية والسياسية؟ أم أنهم (لحظة وضع الدستور) عليهم فقط أن يجيبوا على أسئلة آنية ومحرجة؟
إن مناقشة الفصول الدستورية بشكل منفصل، لن تكون سوى « نصوص هائمة في الفراغ، لا تتعامل مع القيم وغير مرتبطة بالواقع الاجتماعي » كما يذهب إلى ذلك أحد الفقهاء، وهذا ما يجعل البعض (خاصة السياسيين) ينادون بضرورة زرع روح في الوثيقة الدستورية، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، كيف سيتم ذلك؟ هل عن طريق نوع من المصالحة بين النص والوقائع السياسية؟ أي بين النص الثابت والواقع المتغير؟
إن هذه المعطيات كلها تجعلنا نتعامل مع النص الدستوري بكثير من الحذر، لأنه ليس مجالا للمغامرة أو متعة للكتابة، بل هو تعامل مسؤول اتجاه قضية اسمها الدستور، يهمنا بشكل جماعي كوسيلة لضمان الحقوق، ويهمنا كذلك بشكل سياسي كإطار للتعايش وأساس لبناء الدولة، ومن تم لا يجوز لنا القيام بتغييرات قد تجعلنا نحمل النصوص غير حقيقتها وغير أهدافها، أو « نحاول تفسيرها بشكل اعتباطي » كما يقول أحد القضاة.
وبعودتنا إلى دستورنا من خلال كل هذه المنطلقات، يمكننا أن نؤكد على ما يلي:
أولا: علينا أن نكون واضحين وتاريخانيين لنقول، إن دستور 2011 لم يكن وليد تلك اللحظة، بل جاء نتيجة تطورات سياسية عرفها الشعب المغربي، وتراكمات لنقاشات ومواجهات بين قوى مختلفة في المجتمع، تارة تبلغ درجة العنف والتضحيات، وتارة أخرى تشتد حول طبيعة استحقاق الديمقراطية كوسيلة لإدارة الحكم، وبقدر ما كانت المطالب منذ الاستقلال إلى الآن تعرف تصاعدا اجتماعيا ومجتمعيا، بالقدر نفسه كانت السلطة الحاكمة تديرها بنوع من الصرامة الممزوجة بالتنازلات المحسوبة، فتارة تضع الدساتير، وتارة أخرى توظف الدخول في الانتخابات، تم تدير نتائجها، وقد كانت سياسة المذكرات المرفوعة من القوى السياسية أو المدنية، إلى الملك وبعد ذلك إلى اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة الدستور، تجسد كل تلك التراكمات وتعبر عنها، وتعكس ذلك الامتداد التاريخي للقضية الدستورية، وهكذا حتى وصلنا إلى دستور 2011 بكل مكوناته.
وبالموازاة مع ذلك، فإن التطور الذي عرفه الرأسمال الوطني من خلال طفرة اقتصادية عرفها العقد الأول من وصول جلالة الملك إلى الحكم، أدى إلى خلق طبقة وسطى تبحث عن حضور سياسي، لكن في ظل فكر « محافظ »، تقوى أكثر مع غياب الفكر اليساري الناتج عن سقوط حائط برلين، وانهيار الفكر الشيوعي، علما أن هذه الطبقة المتوسطة هي من سيؤدي ثمن فاتورة اختيارات القوى المحافظة خلال 2011.
وفي ظل سياق هذه التطورات، عرف العالم العربي سنة 2011 موجة من الحركات الاحتجاجية الشبابية التي تم السطو عليها « انتخابيا » أو « سلطويا » من طرف القوى المحافظة أو الجيش، مما جعل البعض يطرح السؤال التالي: هل يمكن أن نزاوج بين الديمقراطية والفكر المحافظ المستند على الدين والحدود والضوابط الشرعية في مجتمع أصبح مفتوحا، وغير خاضع بشكل مطلق لسلطة واحدة؟ وهل يمكن تطوير الاقتصاد الوطني بفكر محافظ يعتمد الخطاب الاجتماعي كوسيلة للتدبير السياسي؟ فكر اقتصادي لا يستند على الاستثمار بل على الصدقة، مع ما لكل ذلك من انعكاس على مفهوم التنافس وخلق مناصب الشغل وبناء الإنسان؟
إنه بقدر ما كانت القوى السياسية تسعى إلى وضع دستور ذا بعد ديمقراطي، بقدر ما كانت الحركات المحافظة تراقب بحدر براغماتي، لكونها كانت مدركة أنه في آخر المطاف وفي ظل الظروف السياسية، ستكون هي المستفيد الأول من الدستور الجديد، وهنا لا يجوز لي ولا لغيري أن يصدر أحكاما بديمقراطية أو لا ديمقراطية هذه الحركات، مادامت ملتزمة بالدستور وبالثوابت، فالعلاقة بين الأحزاب لا تبني على الأحكام المسبقة، بل تبنى على قبول التعايش المشترك في ظل دستور متفق ومتوافق عليه، ونعتقد أن نتيجة الاستفتاء على دستور 2011 تعد تعبيرا واضحا عن هذا التوافق وعن المؤسسات الدستورية كمجال لتأطير الصراع السياسي.
ثانيا: هل علينا أن نفسر الدستور المغربي وفصوله داخل الوضع السياسي وما عرفه من تموجات سياسية سنة 2011؟ أم نفسره وفقا للوضع الحالي وما نعيشه من استقرار وتوافق حتى ولو كان يبدو لنا في بعض الأحيان ملغوما؟
في جميع الأحوال، دعونا نختزل هذا النقاش في الفصل 47 الذي يسيل لعاب كثير من السياسيين، ربما لأنه المنفذ إلى السلطة، وإلى رئاسة الحكومة، ومنه إلى الحكومة بذاتها.
إن التعامل مع هذا الفصل انطلق أساسا من خلاف سياسي، حيث بقدر ما كان مكسبا في 2011 أصبح عبئا في سنة 2016، ربما نتيجة العجز السياسي والانتخابي للبعض، أو ربما بسبب الخوف من الهيمنة السياسية للبعض الآخر.
غير أن الحقيقة هي أن مضمون هذا الفصل يثير بعض التساؤلات والإشكالات، لكونه فصل تناول قضية تعيين رئيس الحكومة بشكل مطلق، ولم يضع التدابير التنظيمية في حالة وقوع أزمة سياسية مثل طبيعة الأزمة التي عشناها عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2016 والتي لم تكن في حقيقتها سوى أزمة « مفتعلة » في فترة زمنية كان للدولة حضورا، كما كان للائتلاف الحكومي وجودا سياسيا.
وبقدر ما اعتبر الكثيرون أنها حالة فراغ، فإنه كان توصيفا متحايل به، لكون هذا الفراغ لا يمكن أن يقوم بوجود الدولة وحكومة « تصريف الأعمال »، وكنا ننتظر أن ينصب النقاش حول وضعية البرلمان اتجاه حكومة « تصريف الأعمال » حتى يقوم بدوره، لكون الحكومة كانت عادية أو غير عادية، يبقى دورها في آخر المطاف هو « تصريف الأعمال ».
ثالثا: إن الفصل 47 لا يجب أن نحمله على غير مقاصده، ولا يمكن أن نفسره خارج معناه، وحتى أن صيغته المطلقة لا يجوز لنا أن نقيدها أو نحرفها على دلالتها، وأن تقييم الخلاف السياسي حول هذا الفصل يدخل في صميم أهم دور لرئيس الدولة، وهو فصل مرجعي وليس أداة لخدمة نزاع سياسي لفائدة هذا الطرف أو ضد ذاك، بل يعد أحد أهم أدوات الاختيار الديمقراطي كثابت من الثوابت الدستورية، علما أن لرئيس الدولة سلطة التعامل مع النص باعتباره كغيره من النصوص الدستورية الأخرى نصا غير مكتمل، بحكم عجز النص عن تدبير الضغط السياسي والتحولات غير المتوقعة، لذلك فلرئيس الدولة مهمة ومشروعية تفسير هذا النص، حتى يواكب التطورات السياسية المعلنة أو غير المتوقعة.
رابعا: إذا كانت المحكمة الدستورية نفسها لا تملك اختصاصا مباشرا في تفسير النص الدستوري، فمن له حق تفسيره إذا؟ خاصة وأن تطبيق فصوله يعود إلى سلطات متعددة ومختلفة؟ بحيث كل نص يخاطب وينظم سلطة معينة، يمكنها من المساطر لممارسة دورها؟
إن شرعية تفسير الفصل الدستوري تعود في الواقع إلى السلطة التي يخاطبها، فالنصوص مثلا التي تنظم البرلمان، يعود لهذا الأخير من خلال ممارساته أن يفسر عمليا الفصل الذي يهمه تحت رقابة جميع السلط الأخرى، ونفس الشيء بالنسبة للحكومة، حيث تفسر الفصول التي تعنيها، كما أن هناك عدة وسائل لدفع المحكمة الدستورية إلى تفسير النصوص الدستورية من خلال البث في النزاعات الدستورية المعروضة عليها، وهو ما قد يكون في بعض الحالات ليا لعنق المساطر، وقد سبق لنا مثلا أن دفعنا المحكمة الدستورية بطريقة غير مباشرة، إلى تفسير مفهوم التنصيب البرلماني للحكومة، بمناسبة تشكيل حكومة بنكيران الثانية، وذلك في مسطرة ترمي إلى الطعن في عدم دستورية القانون المالي، و الذي من خلاله اعتبرناه أن هذا الأخير صادر عن حكومة تفتقد لشرعية التنصيب البرلماني، ومن تم يفتقد للشرعية الدستورية.
خامسا: إن الفصل 47 باعتباره فصلا يخاطب جلالة الملك وهو يقوم بممارسة أحد وظائفه الدستورية والتي تكمن في سلطة تعيين رئيس الحكومة مما يمنح له الحق وهو يمارس هذه الوظيفة في تفسيره عمليا وبالشكل الذي يرتئي فيه ذلك الانسجام الدستوري، وهذا التفسير يبقى محفوفا بعدة عناصر أخرى أهمها:
أ) أنه ليس هناك تفسير موحد ومنفرد لهذا الفصل الدستوري، بل يحتمل « خيارات متعددة »، علما أن هذه الخيارات تطرح إشكالية مصدرها، بين ما هو فقهي، أو ما هو سياسي، أم واقعي، مما يوحي بمدى مطاطية دلالاته وتداخل وظيفته.
ب) إن أي مراجعة للفصل 47 من الدستور لا يجب أن تثم إلا وفق أحكام الاختيار الديمقراطي للأمة كما ينص على ذلك الفصل 175 من الدستور، الذي يعتبر من المبادئ الفوق دستورية لعدم القدرة التشريعية على تعديله، علما أن الفصل 47 سار من صميم الخيار الديمقراطي، لذلك فالحزب الأول يبقى له الحق المبدئي في رئاسة الحكومة، وتفسيره لا يجوز أن يمس بالاختيار الديمقراطي الذي هو « حق الأولوية في رئاسة الحكومة »، وبعدها انتقال ذلك الحق نحو الأغلبية، أي بلورة ثقافة التحالفات، أو الحل الثالث وهو التراتبية في النتائج الانتخابية، خاصة وأن الفصل 47 يتكون من جزئين، جزء أول مبدئي يتعلق ب « حق الأولوية »، وجزء ثان مرتبط بالمساطر الخاصة بتفعيل هذا الحق، وهنا تترتب « خيارات متعددة » لم ندرك منها حاليا سوى اختيار واحد هو « تعيين رئيس الحكومة من شخصية ثانية بنفس الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات ».
ج) إن إعمال الفصل 47 لا يقوم فقط على التفسير الحرفي للنص، بل يتعين قراءته من خلال قراءة الدستور كوحدة متكاملة، وكدلالة قانونية، لكون السياسي يسعى إلى تكوين حكومة أشخاص، بينما رئيس الدولة فيسعى إلى « تكوين حكومة قوانين » كما يقول أحد القضاة، وبقدر ما يسعى السياسي إلى تفسير هذا الفصل لمصلحته، فإن رئيس الدولة تحكمه فكرة ما يجب أن يكون، ومن تم إذا كنا قد توافقنا على دستور وزع الاختصاصات ومنح السلط، فهل يجوز لنا بعد ذلك أن نضحي به، تارة بدعوى التأويل الديمقراطي والتهديد بالعودة إلى الانتخابات؟ وتارة أخرى من خلال التضحية بالديمقراطية نفسها حين التراجع عن مضمون النص؟
د) إن الشرعية في تفسير الفصل 47 من الدستور الذي يعود للملك بحكم أنه فصل يخاطب جلالته، يجعلنا نقف بالضرورة عند عدة منطلقات تحكم التركيبة السياسية في المغرب، ذلك أن تفسيرات جلالة الملك للدستور ليست كمثلها من التفسيرات التي تقوم بها باقي المؤسسات كالبرلمان والحكومة فيما يهم ممارسة سلطاتهما واختصاصاتهما، وتفسير هذين الأخيرين يبقى قابلا للطعن وللتجاذب السياسي، بينما تفسيرات وقرارات جلالة الملك فهي تعتبر من أعمال السيادة كمبدأ دستوري لا يمكن الطعن فيها أمام أي جهة مؤسساتية أو دستورية.
لذلك يرى كثيرون أن قيام جلالة الملك عند تعيين السيد سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة باستعمال عبارة « من ضمن عدة خيارات » لها دلالات متعددة، أي أن لجلالته عدة تفسيرات أو خيارات دستورية يمكن إعمالها حسب طبيعة كل أزمة وظروفها ومكوناتها، مما يجعل هؤلاء يقولون بأن الديمقراطية المغربية لا تجد ضمانة وجودها إلا إذا كانت ديمقراطية ناتجة عن نوع من التوافق بين الوثيقة الدستورية والدور الملكي المتعدد الأوجه.
ه) إن الحركية السياسية « تعيين رؤساء الحكومات » التي ينظمها الفصل 47 من الدستور، تمنح لرئيس الدولة حق التأويل الذي قد يعالج أوضاعا سياسية خلقت نتيجة تطورنا السياسي، أو نتجت عن تعدديتنا السياسية، أو ربما حتى عن طبيعية دستورنا الذي يضم في بعض الأحيان توجهات قد تبدو متناقضة، من الملكية الدستورية إلى الملكية البرلمانية، ونهاية بالملكية التيوقراطية، ويبدو كأن جمع ما لا يمكن جمعه سيؤدي بالنتيجة والفعل إلى أوضاع سياسية غير منتظرة، مما يملي علينا إعمال نوع من الذكاء السياسي لإيجاد الحلول، ولتجاوز المطبات السياسية، فهل سنفسر الفصل 47 من خلال الدور التحكيمي لرئيس الدولة ونكتفي؟ أم سنفسره من خلال السلطات التيوقراطية لرئيس الدولة بصفته أمير للمؤمنين؟ أو من خلال جعل ملك البلاد يسود ولا يحكم في إطار ملكية برلمانية مادام تم التنصيص عليها في الفصل الأول من الدستور؟ أو من خلال ملكية دستورية يسود فيها الملك ويحكم؟ أو عبر الاجتهاد لإيجاد حلول آنية، لوضعية سياسية آنية، تحافظ على حسن سير المؤسسات الدستورية والدولة؟
إن الفصل 47 على حالته يعد مكسبا ديمقراطيا، ونصا دستوريا، والاحترام الواجب للدستور يقتضي أن نقبله كليا، كما قبله الاستفتاء، ومن تم علينا أن نتحمل تبعات صدامه بالمتغير السياسي، أما الحديث عن أي تعديل لهذا الفصل الدستوري، فسيفتح الأبواب على تعديلات أخرى، وإلا بأي حق سنغير فصلا دون آخر؟ ولماذا نرضي القوى السياسية ولا نرضي القوى الاجتماعية؟ أو بعض قوى النوع في بعض مطالبها؟ أو حتى لماذا لا نضع دستورا جديدا ومن تم نضرب استقرار المؤسسات، فقط لأننا عجزنا انتخابيا في الانتصار على هذه القوى أو تلك؟
إن للديمقراطية تبعاتها ومخاطرها وتكلفتها، وحتى تنازلاتها، وعلينا أن نكون مستعدين لتحمل عبئ ذلك، لأن إذا كانت الديمقراطية ليست بالمجان، فإن التكلفة السياسية والتنظيمية في غيابها قد تكون باهظة جدا، لكون الشعب المغربي أصبح مهووسا بالديمقراطية والتي لا يمكن بنائها إلا استنادا على تراكمات وإيجاد حلول مثلى لنصوص جامدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.