عوض أن يحتكم قادة وأطر حزب الاستقلال إلى صناديق الاقتراع للحسم في منصب الأمين العام للحزب داخل المؤتمر، كما تفعل كل الأحزاب التي تحترم نفسها وتحترم الحد الأدنى من الديمقراطية، فضل حزب «سيدي علال» أن ينقل معارك شباط وعبد الواحد الفاسي من قيادة الحزب إلى الكواليس ودهاليز البيوت ومؤامرات المقرات والحروب الصغيرة وسط قواعد الحزب. كل هذا خوفا من الديمقراطية، وخوفا من التقاليد المرعية التي قادت صهر علال الفاسي، محمد الوفا وزير التعليم في حكومة بنكيران، إلى اختصار الطريق، والذهاب إلى القصر للحصول على تزكية ملكية يدخل بها الوفا إلى «مقر الحزب في باب الحد» دون الحاجة إلى انتخابات ولا إلى تنافس ولا إلى برامج... الآن، والآن فقط، يمكن أن نلتمس للملك الراحل ألف عذر عندما كان يسمي لجل الأحزاب أمينها العام بلا حاجة إلى «صداع الديمقراطية الداخلية». لما توفي علال الفاسي، في أواسط السبعينات، ذهب قادة حزب الاستقلال إلى القصر لتلقي التعازي في زعيمهم من ملكهم، كما تقضي بذلك الأعراف والطقوس، فقال الملك الحسن الثاني، في نهاية كلمة المجاملة وتقديم العزاء للقادة الذين «تيتموا» بعد وفاة زعيمهم: «رحم الله السي علال، وجعل البركة في امحمد بوستة»... كانت هذه الجملة كافية ليبقى بوستة المراكشي في كرملين باب الحد لمدة 23 سنة إلى أن سلم المشعل لعباس الفاسي الذي كان القصر يعده لهذه المهمة منذ سنوات، ولهذا بعث به سفيرا إلى تونس وإلى باريس، وبقي تحت عين السلطة إلى أن وصل إلى الوزارة الأولى شبحا بلا ظل، وسياسيا بلا أثر... لهذا، فإن الذين صدموا من إقدام الوفا على لعب ورقة التزكية الملكية للوصول إلى الأمانة العامة للحزب، لا يعرفون قصص وصول %99 من زعامات الأحزاب إلى قيادتها، فباستثناء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة العمل الديمقراطي، وما تناسل منها من أحزاب، فإن الباقي كله كان الملك الراحل -وفي أحيان كثيرة إدريس البصري- يتكلف بمهمة صناعة الأمين العام للحزب والنقابة.. في مختبر السلطة الخاص. لم تكن الديمقراطية ممنوعة من دخول البيت المغربي فقط لأن السلطة كانت ترى فيها عدوا، وداء معديا وجب أن يبقى خارج الحدود، بل إن الأحزاب السياسية نفسها ظلت تعادي الممارسة الديمقراطية، وترى أنها خطر على نفوذ العائلات والزعامات وسط الأحزاب والنقابات، ولهذا رأينا فرحة عارمة على وجوه قادة العدالة والتنمية بعد أن أنهوا مؤتمرهم الأخير، ونجحوا في اختيار أمينهم العام بواسطة صناديق الاقتراع، وقد كانت هويته مجهولة دقائق قبل انطلاق علمية فرز الأصوات. فحتى عندما أقلع القصر عن عادة تسمية الأمناء العامين للأحزاب، لم تستطع أغلبية هذه الأحزاب أن تفطم نفسها عن طلب التزكية الملكية لقادتها، لأنهم يعتبرون الحزب ملحقة سياسية للمشور، وليس مؤسسة حزبية موجودة لتحكم ولتطبق برنامجا، وتمثل إرادة أمة... جل الأحزاب صار جزءا من مشاكل التحول الديمقراطي بالمغرب عوض أن يكون جزءا من الحل، ولهذا هجر جل المواطنين صناديق الاقتراع احتجاجا على «شروط اللعبة»، وعلى اللاعبين كذلك، لأنهم يمثلون أدوارا غير حقيقية، ويستغلون أعطاب الحياة السياسية ليخدموا مصالحهم وأجنداتهم ومساراتهم الشخصية... لهذا تراهم يحرسون البلقنة السياسية، ويقبلون أدوار الكومبارس في الحكومة والبرلمان، ويتواطؤون مع السلطة لتكريس نظام انتخابي لا يفرز أغلبية ولا أقلية، بل يخلط الأوراق، ويعيد التوزيع في كل مرة حسب مزاج المرحلة.