في مثل هذا اليوم قبل أزيد من خمسين سنة، بدأت عناصر المخابرات المغربية في الجهاز الأمني السري المعروف ب «الكاب 1»، في تنفيذ الخطة الدقيقة التي وضعت للإيقاع بأشهر معارض سياسي للملك لراحل الحسن الثاني. إنه المهدي بنبركة الذي أصبح في نظر مملكة الحسن الثاني العدو الأول، خاصة بعد أن زادت شعبيته وتجاوزت أسوار البلاد وانتخب رئيسا للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث. الخطة التي سميت ب«بويا البشير» كناية بابن المهدي بنبركة البشير، وضعت في مارس، ونوقشت في اجتماع في مقر «الكاب» بشارع مولاي إدريس تحت رئاسة أوفقير وحضره والكولونيل مارتان المستشار بمصلحة مكافحة الشغب، والكولونيل سكوت من المخابرات الأمريكية المستشار بمصلحة محاربة التجسس، والكولونيل ستيف من المخابرات الأمريكية أيضاً المستشار بمصلحة العمليات التقنية، وأحمد الدليمي نائب رئيس الكاب والمدير المساعد في إدارة الأمن الوطني، ومحمد العشعاشي رئيس مصلحة مكافحة الشغب، وعبدالحق العشعاشي رئيس ديوان أوفقير في الكاب وإدارة الأمن الوطني، وعلي بنتاهيلة رئيس مصلحة محاربة التجسس، وعبدالحميد جسوس رئيس مصلحة العمليات التقنية، وجميل الحسين رئيس المصلحة المالية والإدارية، وأحمد بن عبدالله رئيس مصلحة الشؤون العامة، وبدرالدين بنونة رئيس مصلحة الأمن، ومولاي أحمد التدلاوي رئيس إدارة الشؤون العامة بوزارة الداخلية، وأحمد بن الشيخ المقرب من الدليمي ونائب رئيس مصلحة مكافحة الشغب. كان اللقاء مباشرة بعد الأحداث التي عرفتها البلاد في مارس 1965، والخلاصة التي توصل إليها قادة الكاب تصفية كل الذين تسببوا بشكل أو بآخر في اندلاع ما سمي في التاريخ السياسي المعاصر بانتفاضة التلاميذ، فتقرر في البداية تفصية المهدي بنبركة. إذا صدقنا ما ورد في كتاب «السر» لصاحبه أحمد البخاري العميل السابق بجهاز الكاب، فإن العملية تطلبت ميزاني ةقدرها آنذاك 500 مليون فرنك، وشارك فيها خمسين أمنيا هدفهم الوحيد الإيقاع بالمهدي بنبركة: «كانت عملية "بويا البشير" ذات هدف واحد: اختطاف المهدي بن بركة في الخارج، سواء في الجزائر أو في أي مكان آخر، ثم نقله منوماً إلى المغرب، وحمله مباشرة نحو النقطة المركزية (دار المقري) حيث يتم الاحتفاظ به لمدة أسابيع أو أشهر أو سنوات، إلى أن تأتي أوامر جديدة من المخزن (النظام). وكان مبرمجاً في البداية أن تجري عملية الاختطاف في الجزائر لأن الظروف كانت قد هيئت جيداً من قبل، ولكن بعد أسابيع من الشروع في تنفيذ العملية تم إدخال تعديلات على المخطط الأصلي، فتقرر أن تجري عملية الاختطاف في باريس فوق التراب الفرنسي، كما كان الوقت المخصص لإنهاء العملية في البداية هو ثلاثة أشهر فجرى تمديدها إلى أربعة». يقول البحاري :«بدأ رجال الأمن الخمسون مهماتهم يوم 27 مارس 1965 في الساعة السادسة صباحاً، وانطلقت عملية ملاحقة خطوات بن بركة في جنيف في نفس اليوم، قبل أن تنتشر إلى باريس والقاهرة والجزائر وفرانكفورت، وفي نفس اليوم أيضاً تم تجهيز وسائل التنصت على المكالمات الهاتفية لتسجيل جميع المكالمات الصادرة والقادمة من وإلى بن بركة في العالم، حيث تم نصب أجهزة تنصت في مقرات إقامة مسئولي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في جنيف والقاهرة والجزائر، وربط الاتصال مع الخطوط الهاتفية للاتحاد في الرباط والدار البيضاء ومسؤولية في جميع مدن المملكة، وكان الأمر سهلاً، حيث إنه ومنذ 27 مارس أصبحنا على اطلاع على كل ما يجري حول بن بركة وما يقوم به، وعلى اتصالاته وعلاقاته وتنقلاته ومواعيده وبريده ومحادثاته الهاتفية». في التساع والعشرين من أكتوبر 1965، وقع المهدي بنبركة، وبسبب خطة «بويا البشير» في أيدي المخابرات المغربية، ثم اقتيد إلى منزل «بوسشيس» حيث لفظ أنفساه الأخيرة … هناك من قال إن جثته دفنت في دار المقري، وهنا من قال دفن الرأس فقط، وهناك من روى أنها دفنت في مكان بني فوقه مسجد بفرنسا … الحقيقة الوحيدة أن بن بركة اغتيل، وأن تصفيته تطلبت عددا كبيرا من عناصر الأمن المغاربة والفرنسيين والإسرائيليين والأمريكيين .. ومع كل ذلك، ظل رمزا إلى اليوم، سواء للرفاق أو الأعداء، فلنستمع للبوخاري على سبيل المثال:«في ذلك الوقت كنا قد تعرفنا جيداً على بن بركة، وربما أكثر مما كان يعرفه المقربون منه، ولكننا انتهينا عبر تلك المعرفة إلى احترامه، بل إلى الإعجاب به كأي شخص يحب وطنه ويقدم كل يوم الدليل على ذلك بنظافته وتفوقه وشجاعته. هذا هو بن بركة الذي عرفناه، أنا والآخرون، من الجانب الآخر للحاجز»