هرع الناخبون الفرحون جدا إلى مراكز الاقتراع فى وقت مبكر من الصباح. فأحاطوا بها وهم يرتدون ملابسهم التقليدية الزاهية، حيث ظلوا يرقصون ويعزفون الموسيقى تعبيرا عن بهجتهم بالفرصة التى أتيحت لهم للتعبير عن حبهم للزعيم الذى يحتل مكانة عزيزة فى قلوبهم. ليس فقط لأنه يجسد رمز الرئيس الأبدى للبلاد، ولكن أيضا لأنه يعد القائد الأعلى للقوات المسلحة. وما فعلته الجماهير الفرحة تكرر مع حشود رجال القوات المسلحة، الذين تجمعوا فى حلقات ظلت تردد الأناشيد والهتاف للزعيم المحبوب الذى يقود سفينة الوطن بإخلاصه وحكمته. قبل أن يلتبس الأمر على أى أحد أنبه إلى أن الوصف أعلاه يخص الزعيم الكورى الشمالى كيم جونج اون، وأن العبارات سابقة الذكر وردت فى تقرير وكالة الأنباء الرسمية الكورية، كما تضمنها تقرير مصور بثه الموقع الالكترونى لصحيفة «الجارديان» البريطانية يوم الأحد الماضى 9/3. وتحدث فيه بعض الكوريين عن حبهم ودعمهم المطلق للزعيم الشاب الذى صار رمزا للتلاحم بين الجيش والشعب. كانت المناسبة أن الزعيم المحبوب لم يكتف بالمناصب العديدة التى يتولاها، ولكنه أيضا قرر أن يختبر حب الشعب له، فرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعى الذى يطلق عليه اسم «مجلس الشعب الأعلى». وهذا المجلس لأنه «الأعلى»، فهو يجتمع ليوم واحد مرة أو مرتين فى العام، باعتبار أن أعضاءه مطمئنون إلى أن حكمة الزعيم كفيلة بتسيير دفة الأمور فى البلد على أفضل وجه طوال العام. لذلك فإن مهمته تقتصر على أمرين أولهما اعتماد الموازنة العامة، وثانيهما المصادقة على قرارات مجلس العمال، الذى يضم قيادات الحزب الشيوعى الحاكم. وكان المجلس الأعلى قد عقد آخر اجتماع له فى شهر ابريل من العام الماضى (2013) وصادق فيه على مرسوم إعلان كوريا الشمالية دولة نووية. الانتخابات النيابية هذه تجرى مرة كل خمس سنوات. ولا يقصد بها اختيار ممثلى الشعب ولكن تعيين الأشخاص المرضى عنهم الذين يمارسون الوصاية على الشعب خلال تلك الفترة. ولأن الأمر كذلك فالانتخابات لا تجرى فيها أى منافسة. ولكن حزب العمال الشيوعى الحاكم يتولى من جانبه ترشيح شخص واحد لكل دائرة (عدد الدوائر 687). وعلى الناخبين أن يصوتوا بنعم أو لا على بطاقة الاقتراع. وتكون الرسالة المضمرة فى ذلك هى أن المرشح الذى يعلن عنه هو الشخص الذى يريده الحزب لتمثيل الدائرة فى مجلس الشعب الأعلى. لذلك فقد صار معروفا سلفا أن قائمة الحزب التى أعلنت هى التى ستقود البلاد خلال السنوات الخمس التالية. ولأن الأمر كذلك فإن الدارسين المهتمين بمتابعة الأوضاع فى كوريا الشمالية. يستعينون بقائمة المرشحين (الناجحين سلفا) للتعرف على طبيعة المتغيرات السياسية فى البلاد، من خلال رصد أسماء الصاعدين والتعرف على اتجاهات الذين تم إسقاطهم من قوائم الترشيح. ورغم أن قوائم المرشحين تعد ذاتها قوائم الناجحين إلا أن وسائل الإعلام الرسمية لا تكف قبل إجراء الانتخابات عن حث الناس على المشاركة فى أداء ذلك «الواجب». وتستخدم فى ذلك مختلف أساليب التعبئة والحشد. وعادة ما يستخدم الشعر فى هذه الحملة من خلال بث قصائد «تحريضية» عنوانها: أمواج العواطف والسعادة! الانتخابات «النيابية» التى تمت يوم الأحد الماضى هى الأولى من نوعها منذ تولى الزعيم الحالى كيم الثالث للسلطة، بعد وفاة والده كيم جونج ايل فى شهر ديسمبر من عام 2011. وقد خلف الأخير أباه مؤسس الدولة الشهير كيم ايل سونج الذى مات فى سنة 1994. وفى شريط الفيديو المصور لاحظنا أن صور الأب والجد معلقة على جدران غرفة التصويت. وشاهدنا بعض قادة الجيش وهم يؤدون التحية العسكرية للزعيمين الراحلين قبل أن يودع كل منهم ورقة التصويت فى صندوق «الاقتراع». الزعيم الحالى كيم جونج اون يمارس سلطة الرئيس المطلقة لكنه لا يوصف بأنه رئيس لأن المنصب محجوز للجد المؤسس (كيم ايل سونج) الذى يعد طبقا للدستور «الرئيس الأبوى» للبلاد. وقد رشح صاحبنا نفسه نائبا عن الدائرة 111 التى تقع فى جبل بيكتو القريب من الحدود الصينية. وهذه الدائرة تعد موقعا «مقدسا» فى كوريا الشمالية، لأن الجد كيم ايل سونج أقام فيه معسكرا للمقاتلين خلال النضال ضد الاستعمار اليابانى لكوريا. وتشير رواية رسمية إلى أن ذلك الأب كيم جونج ايل ولد فى ذلك الموقع عام 1942. ورغم أن القانون لا يلزم المواطنين بالاقتراع إلا أن المناسبة تستخدم فى إحصاء السكان. لأن الموظفين المكلفين بتنظيم الانتخابات يزورون كل منزل للتأكد من وجود الناخبين المسجلين أو غيابهم. لأن البعض يهربون إلى كوريا الجنوبية أو الصين. وهو الأمر الذى تعرف الأسر كيف تتحايل عليه بأساليب عدة منها دفع رشاوى للموظفين أو الادعاء بأن الغائبين يعملون فى أماكن أخرى. بعد إجراء الانتخابات يوم الأحد. تم فرز الأصوات فى الدائرة على الفور، وظهرت النتيجة قبل منتصف الليل، وأعلن أن الزعيم المحبوب حصل على 100٪ من الأصوات، وأن أحدا لم يتخلف عن التعبير عن حبه له وثقته فيه. وفى صباح اليوم التالى هرع الناخبون الفرحون إلى الشوارع معبرين عن ابتهاجهم بالنتيجة! ملحوظة: التزامن بين الانتخابات التى فاز فيها الزعيم المحبوب فى كوريا الشمالية وبين فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية المصرية مجرد مصادفة، أرجو ألا تحمل بما لا تحتمل.