كلما حلت مناسبة دينية أو وطنية أو دولية أو إنسانية إلا وتعالت أصوات المتشددين من المنتسبين إلى الإسلام والمحتكرين لحقيقته والناطقين باسمه ، يحرمون تبادل التهاني بين المسلمين أو بين عموم المواطنين على اختلاف دياناتهم . وما يثير الامتعاض أن هذه الأصوات تتبوأ منابر الجمعة وتمثل المؤسسة الدينية الرسمية داخل المساجد التي تشرف عليها وزارة الأوقاف ، ومنها تتلقى أجرة الخطابة والتأطير الديني . وفرق كبير بين أن يغرد شيوخ التيار المتشدد على صفحاتهم في التويتر أو الفيسبوك ، وبين أن يجعلها فريق آخر موضوع خطب الجمعة كلما حلت مناسبة أو عيد . فالأمر لم يعد ، كما قال من قبل وزير الأوقاف ،وفي كل مناسبة ، مجرد رأي يخص صاحبه ، بل غدا "تشريعا" للكراهية والتكفير والتحريض عليهما ضد المواطنين أولا ثم ضد الإنسانية . ليس الموضوع هنا مدى احترامهم للتعاليم الدينية السمحة مادام النص الديني حمال أوجه ويمكن تغليب فهم على آخر ، بل الأمر يتعلق بقيم المواطنة وحقوق الإنسان في بعدها الكوني كما نص عليها الدستور . إذ من مهام الدولة إشاعة الأمن والطمأنينة وفرض احترام القوانين الجاري بها العمل ، كما من مهام وزارة الأوقاف ضمان حياد بيوت الله التي ( أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه ) وتوفر الأمن الروحي للمؤمنين أيا كانت عقيدتهم وقناعاتهم الفكرية حفاظا على وحدة النسيج المجتمعي . لقد شنها فقهاء التشدد حملة كراهية وتكفير ضد المواطنين الذين دأبوا أو قرروا الاحتفال برأس السنة ومشاركة أهليهم لحظات توديع عام واستقبال آخر وكلهم أمل أن يحمل العام الجديد بشائر الفرح والنجاح والأمن .
لم يرتكب المواطنون جرما ولا إثما ولا عنفا ضد وطنهم ومجتمعهم وبقية خلق الله وهم يشعلون الشموع أو يتبادلون هدايا رأس السنة أو يتقاسمون كعكة أعدت لهذه المناسبة ، حتى يشدد عليهم المتشددون فيطعنون في عقيدتهم ويرمونهم بالكفر والولاء لأعداء الدين . وأن ينبري خطباء رسميون إلى تكفير كل مواطن احتفل برأس السنة الميلادية وقاسم أسرته كعكة بالمناسبة ، أمر لا تخفى خطورته على استقرار الوطن في ظل تزايد تشكيل الخلايا الإرهابية التي تصر على تحويل أرض المغرب إلى أرض جهاد تستباح فيها الدماء والأعراض والممتلكات . وما كان لهذه الخلايا أن تتشكل لولا أن أعضاءها يحكمون على الشعب المغربي بالردة والكفر وينصبون أنفسهم حماة الدين والمأمورين بإخضاع الناس لأحكامه . ومما يشرعن به التكفيريون تهجمهم على صانعي حلويات وهدايا رأس السنة وبائعيها ومقتنيها ومستهلكيها ، أن الاحتفال برأس السنة الميلادية هو تشبه بالنصارى وموالاة لهم ، ومن تشبه بالنصارى صار منهم في الملة والدين . وهذه الخطب التحريضية التي يشنها المتشددون ضد عموم المواطنين تستوجب القيام بخطوتين أساسيتين :
الخطوة الأولى : وتستلزم تفعيل القوانين المعمول فيها في مجال الحقل الديني قطعا لدابر الفتنة والتحريض ضد المواطنين . فوزارة الأوقاف ملزمة بتحديد التوجهات الكبرى للخطباء بما ينسجم مع سياسة هيكلة الحقل الديني وحماية الأمن الروحي للمغاربة ضد الخارجين على المذهب الرسمي للمملكة والمهددين لوحدة النسيج المجتمعي . فالخطباء لا يعبرون عن وجهات نظرهم الخاصة لما يكونون أعلى منابر الجمعة شأنهم شأن في هذا شأن بقية موظفي الدولة . بل هم ملزمون باحترام مقتضيات الدستور باعتباره القانون الأسمى والإطار المرجعي للممارسات العمومية أيا كانت قطاعاتها ، وكذا ميثاق العلماء الذي يحدد مهمات الخطباء وأهداف الخطابة .
الخطوة الثانية : هي خطوة مجتمعية تقتضي من كل الأطراف الفاعلة في المجتمع بلورة ثقافة فقهية تنسجم مع الثقافة السياسية والحقوقية التي يفرزها التطور الديمقراطي للمغرب الذي بات منفتحا على الأجيال الجديدة لحقوق الإنسان في بعدها الكوني .
فالدستور المغربي ينص على الانفتاح على قيم ومبادئ حقوق الإنسان ، وفي مقدمتها حقوق المواطنة ، وقيم التسامح والتعايش والحوار ، بينما فقهاء التشدد والكراهية يحرضون ضد المواطنين ويعرضون حياتهم للخطر بما ينشرونه من فتاوى فقهية معزولة عن سياقها التاريخي . فكل الفتاوى التي يستمسك بها دعاة التشدد فيما يتعلق بالموقف من أهل الديانة المسيحية إنما هي وليدة سياق تاريخي ولى وانتهى ولم يعد هو السياق الذي نؤطر ضمنه اجتهاداتنا الفقهية ومواقفنا من الآخر المسيحي . لذا وجب على الهيئات الدينية والسياسية والثقافية أن تنكب على بلورة اجتهادات فقهية منفتحة على واقعنا وعصرنا بقيمه وفي حركيته ، وتقطع ، في المقابل مع "فقه المواجهة" الذي أفرزته ظروف تاريخية ميزتها الحروب الصليبية . فالفقه الإسلامي الذي أنتجته ظروف الحروب الصليبية هو الفقه المستحكم في ذهنية الفقهاء والدعاة الذين هم أسرى تلك الاجتهادات الفقهية المحرمة لأي تعامل مع الغرب الصليبي . لقد انتهى ذلك الغرب لكن الشرق لم ينته فقهيا وثقافيا ، وظل يعيد إنتاج ثقافة الكراهية لغرب صار إنسانيا ولم يعد صليبيا.