كثر اللغط واشتدّ في أوساط الطبقة السياسية حول « التحكم » ، وبالغ أعضاء حزب المصباح في توظيف هذا اللفظ مع اقتراب موعد الانتخابات، وبدا واضحا أن المقصود هو تسويق صورة الحزب من أجل الإعداد للحملة الانتخابية، هذه الصورة التي تقدم الحزب على أنه ضدّ « التحكم » (أي سلطة الاستبداد والضبط في الدولة، والتي تعتمد آليات غير ديمقراطية)، وأنه يسعى إلى إنجاح الإصلاحات، وأنه في حالة ما إذا أتيح له أن يستمر في الحكومة لولاية أخرى خارج ضغوط « التحكم » فسيحقق نتائج أفضل من التي حققها خلال السنوات الخمس المنصرمة. مشكلة هذا الخطاب المحض دعائي أنه لا يطابق الواقع الفعلي الذي سارت عليه الأمور خلال الولاية الحكومية التي نعيش نهاياتها المتعبة، وفيما يلي بيان ذلك: أولا أنّ حزب العدالة والتنمية بدا أكبر مناصر لما يسميه « التحكم » من خلال مواقف أمينه العام خلال الحراك الشعبي الذي عرفته سنة 2011، حيث عمل الرجل الذي هو الناطق الرسمي للحزب وممثله في وسائل الإعلام، على تقديم نفسه للحكام على أنه حزب في الخدمة، وأنه الأكثر استعدادا لحماية « الثوابت »، التي يعلم الجميع أنها ثوابت التحكم ومرتكزاته، أي أنه حزب لا يسعى إلى تغيير منطق السلطة وأسلوب عملها، أو المسّ بسلطات الحاكمين الفعليين، أو منازعتهم في شرعيتهم، بقدر ما يسعى إلى مساعدتهم على العمل في إطار منطقهم المتعارف عليه، وقد أبدى السيد بنكيران حنكة ومهارة عجيبة لإثبات ذلك إلى درجة أنه أعلن مناصرته للحكم المطلق وتشبثه بإمارة المؤمنين (التي ينازع الإسلاميون في شرعيتها) وحرصه على بقاء سلطات الملك على ما هي عليه، ولم يقم بذلك في الداخل فقط، بل وكذلك لدى الإعلام الأجنبي (قناة الجزيرة القطرية والإعلام الفرنسي). بل أكثر من ذلك لم يتوقف الأمين العام لحزب المصباح عن تذكير الناس بأنه في خدمة الملك إلى درجة أنه مستعد للذهاب إلى السجن إذا أمره الملك بذلك (كذا !) كما صرح مؤخرا بأنه مستعد للذهاب من الحكومة ومغادرة منصبه والتخلي عنه إذا أمره الملك بذلك (كذا !). ولسنا ندري كيف يمكن لمن يقول مثل هذا الكلام المخزي أن يزعم أن هدفه محاربة التحكم. ثانيا أن الحزب منذ أن تولى رئاسة الحكومة ما فتئ يذكرنا بما أكدته جميع الأحزاب التي سبقته إلى موقعه ذاك، وهو أنه حزب لا يحكم بل « يساعد صاحب الجلالة ». أي أنه ينفذ سياسة الدولة التي هي سياسة ملكية أساسا، وأن جميع الاختيارات التي يعبر عنها الحزب أو يسعى إلى إقرارها في الحكومة لا يقوم بها إلا بعد أن يكون الملك قد وافق عليها، بما في ذلك الزيادة في أسعار المحروقات، حيث أعلن بنكيران للمغاربة بأنه تلقى موافقة الملك له على القيام بذلك. كما أن جميع مشاريع القوانين التي تعدّها حكومة بنكيران تتم غربلتها داخل الأمانة العامة للحكومة التي يعلم الجميع أنها لا تخضع لرئيس الحكومة ولا تتبع له. ثالثا أن الحزب لا ينتبه إلى أنه وهو يعلن فشله في مهامه بسبب مضايقة « التحكم » له، إنما يعلن إفلاسه في الحياة السياسية، لأن المنطق يقتضي أن نفهم بأن هذا الحزب لا يمكن أن يحلّ مشاكل المغاربة ما دام لم ينجح في القضاء على التحكم أو إضعافه، بل على العكس قام بمناصرته ودعمه والخضوع له بحثا عن التمكين لنفسه داخل دواليب السلطة، فمن حق المغاربة أن يقولوا لحزب المصباح وللسيد بنكيران متسائلين: « لماذا سنصوت عليك لولاية أخرى والتحكم ما زال موجودا وسيبقى مستمرا وأنت لا تستطيع وضع حدّ له ؟ هل سنتحمل لخمس سنوات أخرى بكاءك بسبب التحكم ؟ هل سنصوت عليك لكي تخبرنا بوجود التحكم، وبأنه لا يدعك تعمل ؟ ما هي مردودية ذلك على حياتنا ومعاشنا ؟« هكذا يريد حزب المصباح « الزبدة وأموال الزبدة » كما يقول المثل الفرنسي il veut le beurre et l'argent du beurre » إنه يشعر بقوة « التحكم » فيسعى إلى التحالف معه ضمانا لموقعه داخل الدولة، وفي نفس الوقت يعمل في الخفاء على نقض « التحكم » والتخلص منه بالتدريج من أجل الاستفراد بالدولة، والحال أنه لا يستطيع إلا تحقيق أحد أمرين، وهو الحفاظ على موقعه في الحكومة من أجل الاستمرار في السخرة الإدارية لصالح ما يسميه « التحكم »، إلى أن تنفذ بطاريته كما نفذت بطارية غيره. رابعا أصبحت لعبة بنكيران مكشوفة للجميع حين يتعمد الفصل بين الملك ومحيطه، وهي قاعدة شرقية قديمة ترسخت من خلال تاريخ طويل من الاستبداد الشرقي الفارسي والعربي، والتي مفادها أن الحاكم يتسم بالعدل والطيبوبة وحبّ الخير للناس، لكن محيطه فاسد ولا يساعده على الإصلاح، ومكمن العبث في تصريحات بنكيران بهذا الصدد أنّ الأشخاص الذين هم في محيط الملك والذين يستهدفهم بنكيران وأصحابه بحملاته الدعائية والانتخابية إنما يعملون مع الملك لا بمعزل عنه في تدبير شؤون الدولة من منطلق ما يُتعارف عليه بالسياسة الملكية، التي تحدّد الاختيارات العليا للدولة، وهؤلاء الأشخاص لا يعملون بمزاجهم الفردي بقدر ما يقومون بتسيير شؤون الدولة في إطار نظام الملكية التنفيذية التي يسود فيها الملك ويحكم، وهو نظام يعتمد في عمله على المؤسسات الحديثة كما يلجأ أيضا إلى عدد من الآليات التقليدية في الحكم وافق عليها بنكيران بل أعلن تشبثه بها وحرصه على استمرارها، وهي كلها منضوية في إطار مؤسسة « إمارة المؤمنين »، حيث كما هو معلوم يعتبر الدين العامل الرئيسي لتبرير هذه السياسات وشرعنتها وضمان استمرارها في مجتمع يعاني من تجذر أسباب التخلف، وقد انبرى بنكيران بكل قوته للدفاع عن هذا الواقع وتبريره مزكيا نفسه على أنه الشخص المناسب لتقوية هذا الواقع وتعميقه وحمايته وضمان استمراره. أي أن الرجل وحزبه دخلا إلى الحياة السياسية بعد مفاوضات دامت سنوات طويلة انتهوا خلالها إلى قبول العمل في إطار ما تسميه السلطة « الشرعية »، وهي القبول بقواعد اللعبة كما هي والعمل في إطارها. يعلم بنكيران ومن معه أن النظام تحكمي بطبيعته، وأنه قوي وقادر على إنهاك الأحزاب وإذلالها، فيفضل أن يمارَس به التحكم على أن يمارَس بغيره. وهذا هو مختصَر الحكاية التي نعبر عنها بالواضح على الشكل التالي: يحارب حزب المصباح حزب « الأصالة والمعاصرة »، ليس من أجل الديمقراطية، وإنما من أجل الحلول مكانه، ولو تخلص من نزعة النفاق والمراوغة لقال بالواضح مخاطبا السلطة : « لماذا تحتاج الدولة إلى هذا الحزب ونحن موجودون، إننا على استعداد للقيام بنفس دوره وبشكل أفضل منه« . وإذا أضفنا إلى العناصر السابقة المعطيات التالية: أن الحزب اجتهد كثيرا لتسوية ملفات حساسة لصالح السلطة والتوازنات المالية، وضدا على مصالح المواطنين والطبقات الهشة. أنه أخضع الناس للسلطة وساهم في تهدئتهم دون أن يحصلوا على حقوقهم الأساسية. أنه قام بتمرير قوانين لا ديمقراطية وغير متلائمة مع مكتسبات دستور 2011. أن رئيس الحكومة اعتمد خطة الهجوم على المجتمع عوض الركون إلى الصمت أو تبرير أخطائه، حيث يغصب الناس حقوقهم ثم يشتمهم فوق ذلك أو يوبخهم في خطبه. أنّ رئيس الحكومة تخلى عن الكثير من صلاحياته الدستورية طواعية لصالح الجهات الأقوى في الدولة، لضمان الحفاظ على موقعه وقضاء أغراضه وأغراض عائلته وذويه وأغراض أتباعه وعائلاتهم. أنّ بنكيران دعا أتباعه إلى عدم التعليق على كثير من الوقائع التي اعتبرت من فضائح الدولة والسكوت عنها مثل فضيحة « خُدام الدولة« . أن بنكيران في الوقت الذي يشتكي فيه من التحكم، يقدم وعودا للمغاربة يتعهد بتنفيذها في الولاية المقبلة ؟ كيف يمكن لمن يعيش تحت وصاية التحكم أن يحقق وعوده وهو لا يملك قرار نفسه ؟ أن حزب الاستقلال قد شهد غير ما مرة بأن سبب انسحابه من الحكومة هو مقدار الجشع للسلطة ومقدار « التحكم » الذي أبان عنه حزب الصباح منذ بداية توليه إدارة الشأن العام، حيث فضل الاستفراد بالعديد من الملفات دون أي تشارك مع الأحزاب الحليفة له في الحكومة. إذا أضفنا كل هذه المعطيات، فإنّ حزب المصباح يظهر بوصفه إحدى أكبر آليات التحكم وضبط الحياة السياسية المغربية حاليا، وهو ما يضمن له الاستمرار في الحكومة لولاية أخرى بإرادة السلطة قبل إرادة الناخبين، في حالة ما إذا كانت السلطة مازالت بحاجة إليه، وإن لم تكن قد انزعجت من التصريحات البهلوانية لرئيسه، بعد أن قامت بترويض أتباعه وتعويدهم على اقتسام الكعكة ومكاسبها المادية، حيث تركتهم يتنعمون إلى أقصى حدّ في الميزانيات والسيارات والإقامات هم وعائلاتهم، وهي المكاسب التي ليسوا مستعدين للتخلي عنها، ما يعني عدم قدرتهم على المحاربة الفعلية للتحكم، الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف.