أتوقع عاما صعبا على مصر فى عام 2014، ولأننا سنحصد فيه ثمار ما زرعناه فى عام الكراهية الذى سبقه فإننى لا أكاد أجد بين عناوينه ما يسمح بالتفاؤل، زاعما بأنه لا يمثل المستقبل وإنما هو مجرد سحابة داكنة وعابرة فيه. (1) أدرى أن الخوف من الآتى المنظور يكاد يكون عنوانا للمشرق العربى بوجه أخص فى العام الجديد. من لبنان وفلسطين إلى سوريا والعراق مرورا بمصر والسودان واليمن. إلا أننى أزعم أن لكل بلد أسبابه الخاصة الداعية إلى ذلك. ولئن كان سيناريو الانفراط والتشرذم سمة غالبة على أكثر الدول المشرقية، إلا أن الأمر لا ينسحب على مصر. التى لا يهددها الانفراط الجغرافى، فى حين تدخل فى مرحلة من المواجهة قريبة من تلك التى شهدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر، حين أصيبت الدولة بلوثة عارمة دفعتها إلى التورط فى معركة مفتوحة على الجهات الأربع ضد الإرهاب. ومن يتابع وسائل الإعلام المصرية وحملة التعبئة المجنونة ضد الإرهاب التى يروج لها صباح مساء، والتى تحشد لها كل الرموز والطاقات، لا يدع مجالا للشك فى أننا نستنسخ ما جرى فى الولاياتالمتحدة، فالهيستيريا واحدة. والمكارثية لم تختلف فى البلدين. وتهمة الطابور الخامس التى وجهت ضد الرافضين لموقف الحكومة تكاد تكون متطابقة عندهم وعندنا. وما فعلته ليز تشينى ابنة نائب الرئيس آنذاك ديك تشينى، حين خصصت موقعا لتتبع وإعلان أسماء أولئك الرافضين بين أساتذة الجامعات خاصة. لا تختلف عما يفعله بعض إعلاميى الأجهزة الأمنية عندنا بحق بعض المثقفين وحتى المسئولين فى الحكومة. وشعار من ليس معنا فهو ضدنا الذى أشهرته الإدارة الأمريكية خارج حدودها مرفوع عندنا فى الداخل والخارج، مع ذلك فثمة فوارق مهمة بين الحالتين، منها ان الحرب الأمريكية انبنت على حقائق وقعت على الأرض، ودارت رحاها خارج حدود البلاد، فى حين أن الحرب المصرية الراهنة انبنت على كم غير قليل من الأوهام والأغاليط وظل ميدانها الأساسى فى الداخل. منها أيضا أن الأمريكيين وجهوا نيرانهم فى البداية ضد هدف واضح هو معقل تنظيم القاعدة فى أفغانستان، أما فى مصر فإن السلطة اختارت هدفا لم يثبت انه الفاعل الحقيقى وراء الحوادث الإرهابية، رغم أن له اخطاؤه السياسية وغير السياسية التى لا تنكر. أما أهم تلك الفوارق فإن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب كانت موجهة ضد أناس من شعوب أخرى، أما فى حالتنا فسهام الحرب موجهة ضد فئة من الشعب المصرى ذاته. (2) قلت إننا سوف نحصد فى العام الجديد ثمار ما زرعناه فى عام 2013 الذى سبقه، وإذا تطلعنا إلى صفحة العام المنقضى فسنجد أننا زرعنا أمورا عدة يتمثل أبرزها فيما يلى: إقصاء الإسلام السياسى وإخراجه من المشهد. اعتماد الدور السياسى للقوات المسلحة، من خلال الوضع الخاص لوزير الدفاع الذى جرى تقنينه فى نص الدستور والذى يحول قيادة القوات المسلحة إلى مركز قوة فى الساحة السياسية، خصوصا فى ظل الضعف المشهود للأحزاب السياسية. إضعاف دور الحراك الأهلى ومنظمات المجتمع المدنى، فى ظل القانون الذى صدر باسم تنظيم التظاهر، وتضمن قيودا عدة على ممارسة ذلك الحق، الأمر الذى استخلص منه الجميع أنه أريد به منع التظاهر وليس تنظيمه. تسييس القضاء ودفعه كى يصبح طرفا فى الصراع الدائر، خلال اخضاع إجراءات التحقيق والضبط، ونظر القضايا أو حفظ البلاغات وكذلك أحكام القضاء لمتطلبات وملاءمات السياسة الأمنية. استعادة السياسة الأمنية التى كانت متبعة فى مرحلة ما قبل الثورة، بما استصحبته من ممارسات شكلت انتهاكات لحقوق الإنسان. أعادت إلى الأذهان ما ظن الجميع أن الثورة تجاوزته وطوت صفحته. أسهم فى ذلك قرار إعادة العناصر الأمنية التى سبق استبعادها لارتباطها بمرحلة مبارك والعادلى إلى وظائفهم السابقة. فتح الأبواب للتشكيك فى ثورة 25 يناير، من خلال تجريح الحدث وتلويث سمعة المشاركين فيه، لتأسيس شرعية جديدة لما سمى بثورة 30 يونيو. وفى الوقت الذى بذل فيه البعض جهدهم للقطيعة مع ثورة يناير، فإن قرائن عدة لاحت فى الأفق المصرى الجديد مشيرة إلى التصالح مع نظام مبارك الذى انتفض ضده ثوار يناير. وكان ظهور رموز وأبواق عصر مبارك فى الساحة الإعلامية من تلك القرائن، التى كان بينها أيضا إسهام أثرياء ذلك العصر فى مساندة معارضى نظام الدكتور محمد مرسى والدعوة إلى إسقاطه. إذكاء وتأجيج الخصومة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فى قطاع غزة، وفى الوقت نفسه، ممارسة درجة ملحوظة من التهدئة مع إسرائيل، حتى بدا أن ضغوط النظام المصرى موجهة بشكل أساسى ضد الفلسطينيين الذين يسكنون القطاع (التى تمثلت فى هدم الانفاق وتكرار إغلاق معبر رفح إلى جانب حملات التشهير الإعلامية). الانخراط فى محور «الاعتدال» العربى الأكثر ارتباطا بالسياسة الأمريكية، والاعتماد شبه الكامل على دعم ذلك المحور ومساندته فى التعامل مع الأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر. (3) ربما لاحظت أننى لم أتعرض للسياسات الاقتصادية، التى أحسب أن لأهل الاختصاص فى شأنها كلاما كثيرا، يضيف مسحة إضافية من التشاؤم إزاء سيناريوهات السنة الجديدة، وهو أمر لا غرابة فيه لأن جزءا كبيرا من النشاط الاقتصادى يرتبط باستقرار الأوضاع السياسية وهدوئها. ولأننى آثرت أن أترك تناول الشأن الاقتصادى لأهله، فسوف أكتفى هنا باستعراض الحصاد المفترض لما تم زرعه فى الساحتين السياسية والاجتماعية، وهو ما ألخصه فى النقاط التالية: مصير الحريات العامة فى العام الجديد محفوف بالمخاطر، لسبب جوهرى يتمثل فى الضعف الشديد للمجتمع المدنى. والفراغ المؤرق المخيم على الفضاء السياسى، ذلك أن مصر خرجت من العام المنصرم وقد توزعت على معسكرين. أحدهما متغلب قابض على السلطة يضم تحالفا عريضا تقوده المؤسسة العسكرية والأمنية يضم أغلب الكيانات السياسية (الليبرالية واليسارية) ومعها فلول نظام مبارك، إضافة إلى القضاء والإعلام. المعسكر الثانى مغلوب ومهشم يضم جماعة الإخوان ومعها بقية الكيانات المنخرطة فى التحالف من أجل الشرعية، وقد التحق بالمعسكر المغلوب مؤخرا عدد محدود من المنظمات الحقوقية. وذلك المعسكر المتغلب لم يكن لديه مشروع للوطن، ولكنه اجتمع على هدف إسقاط حكم الإخوان. وإن تحقق ذلك فإن الاستمرار فى السلطة سيصبح هدف المرحلة المقبلة التى تم التمهيد لها برفع أسهم المؤسسة العسكرية ومعها القضاء العسكرى، وإصدار قانون منع التظاهر وإنشاء محاكم خاصة للإرهاب. وستكون الأجهزة الأمنية هى الحارسة لكل ذلك، خصوصا فى ظل استمرار مسلسل اجتثاث الإخوان واقصائهم من الحياة السياسية. وإذا كان الوضع المستجد لم يحتمل فى بداياته حلقة واحدة من البرنامج الساخر الذى كان يقدمه الدكتور باسم يوسف، فلنا أن نتصور مقدار حساسية إزاء حرية التعبير بعد تمكينه. إذا كانت جولة إخراج الإخوان من السلطة قد حسمت فى عام 2013، فإن العام الجديد يفترض أن يشهد الجولة الأهم التى سيتم بمقتضاها إخراجهم من السياسة. ذلك ان كل القضايا التى أعلن عنها فى العام السابق سوف يحسم أمرها خلال السنة الجديدة. وحسب المعلومات المتاحة فإن عدد الذين احالتهم النيابة إلى القضاء من الإخوان وحدهم يقدر عددهم الآن بنحو 1800 شخص. وهناك مئات آخرون وجهت إليهم الاتهامات بالتحريض على العنف وتعطيل الدستور وغير ذلك. ولم يتم تحديد مصيرهم بعد. ذلك غير المعتقلين الذين تقدر المصادر الإخوانية عددهم بأكثر من 14 ألف شخص. يفترض أن يحسم أمرهم أيضا هذا العام. إضافة إلى ما سبق فإن جراح العام الماضى ستظل معلقة على جدران العام الجديد، ولا أحد يعرف كيف ستعبر عن نفسها. أخطر تلك الجراح ما تعلق منها بضحايا فض الاعتصامات الذين يتفق الجميع على أن العدد الأدنى لقتلاهم هو نحو ألف شخص (مصادر الإخوان تتحدث عن ثلاثة آلاف) وذلك بخلاف المصابين والمعاقين. وهو الملف الذى لايزال مغلقا ولم يبذل أى جهد لمداواته وامتصاص مراراته، ناهيك عن إعلان الحقيقة فيه. وأخشى ما أخشاه إذا ما استمر ذلك الوضع أن يؤدى ذلك إلى موجة جديدة من العنف الذى ينطلق من الثأر وتصفية الحساب، خصوصا أن الضحايا لم يكونوا من الإخوان فقط ولكن بينهم أناس ينتمون إلى جماعات إسلامية أخرى. والعنف فى هذه الحالة قد لا يستهدف مؤسسات النظام فقط، ولكنه قد يستهدف أيضا ضرب نقاط الضعف فى المجتمع (الأقباط مثلا) والاقتصاد (السياحة أقرب مثل). فى حين شهدت سنة حكم الدكتور مرسى انخراط كل التجمعات الإسلامية فى العمل السياسى العلنى والسلمى بمن فيهم الجهاديون والسلفيون والمتصوفة، فيخشى أن تشهد مرحلة الإقصاء والاجتثاث المقبلة عودة التنظيمات السرية، بأفكارها الخطرة وتداعياتها التى تهدد الاستقرار والأمن. فى العام المنقضى توجهت أصابع الاتهام إلى حركة حماس فى غزة بالضلوع فى تهديد الأمن القومى المصرى، وتضاعفت تلك الاتهامات بعد عزل الدكتور مرسى، إلى الحد الذى دعا البعض إلى تصنيفها كحركة إرهابية مع الإخوان، وهى للأسف ذات التهمة التى وجهتها إسرائيل إلى حماس وغيرها من فصائل المقاومة. وفى العام ذاته برزت سيناء باعتبارها بؤرة ومعقلا للجماعات الإرهابية والتكفيرية، وفى وسائل الإعلام المصرية محاولات للربط بين حماس وبين تلك الجماعات، رغم أن عام 2012 شهد انشاء غرفة عمليات اشترك فيها ممثلو حماس مع الجهات المصرية المختصة للتعامل مع الوضع فى سيناء. وليست هناك مؤشرات توحى بأى تطور يدعو للتفاؤل بمستقبل العلاقة مع الطرفين فى العام الجديد، لأن ثمة تصعيدا فى مواجهة حماس لا يستبعد فى ظله حدوث صدام عسكرى تشجعه أطراف عدة، إلى جانب أن الوضع فى سيناء لم يعد مؤهلا لأية تهدئة، خصوصا أن القضاء على الإرهاب القادم منها لم يحقق هدفه خلال السنة الماضية. (4) العنصر الذى لا ينبغى أن يغيب عن البال هو أن مصر أكبر من الطرفين المتصارعين، الغالب منهما والمغلوب. ذلك أن ثمة مساحة وسطا تحتلها كتلة جماهيرية حية لا تنتمى إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومن رحم تلك الكتلة خرج المجهولون الذين فجروا ثورة 25 يناير وأعادوا إلى المجتمع حلمه المغيب وبلده المغتصب والمنهوب، ولم يتحقق ذلك بالمجان، ولكن الشباب القادم من المجهول دفعوا ثمنه من دمائهم. ويخطئ من يظن أن ملف الإخوان ومسعى اجتثاثهم هو أهم ملفات العام الجديد. ورغم أننى لا أجادل فى أهميته إلا أننى أزعم أن الأهم هو مستقبل الديمقراطية فى مصر ومعه مصير ثورة 25 يناير. الأهم هو استعادة الحلم الذى ما كاد يحط على الأرض حتى جرت ملاحقته ومطاردته فعاد إلى موقعه معلقا فى الفضاء، بانتظار المجهولين الذين استدعوه فى عام 2011 لكنهم لم يحملوه وعادوا بعد ذلك إلى المجهول. لست أرى فى السحابات الداكنة التى تلوح فى الأفق نهاية المطاف. وأقاوم بشدة فكرة ضياع الحلم والاستسلام لليأس من المستقبل، لأننا عشناه ولمسناه فى لحظة خاطفة. ولأنه كان، فذلك يعنى أنه ممكن وأنه سيكون.