لا أظن أحدا يعرفه باستثناء أفراد أسرته وزبائنه. ارتبط اسم إسكندر طوس بأحداث جسيمة تحدثت عنها وسائل الإعلام، إلا أننى بحثت عن صورة شخصية له وأى تفاصيل عن حياته فلم أجد. بالطبع وسائل الإعلام لها أولوياتها: إذا أصيبت نجمة سينمائية بالتواء فى قدمها، أو إذا سرت شائعة بأن وزيرا قد تزوج سرا من سكرتيرته، أو حتى إذا قرر لاعب كرة شهير أن يقضى أياما فى فيلته بالساحل الشمالى بغرض الاستجمام. كل هذه موضوعات يعتبرها الإعلام مهمة وجذابة، أما إسكندر طوس فليس فى حياته كلها ما يصنع خبرا واحدا مثيرا. كل ما نعرفه عن إسكندر طوس أنه يبلغ من العمر ستين عاما، وأنه حلاق لكن صالون الحلاقة الذى يمتلكه ليس فى حى راق بالقاهرة أو الإسكندرية، حيث الأغنياء ونجوم المجتمع، وإنما فى قرية نائية مهجورة اسمها دلجا فى محافظة المنيا. بصراحة إسكندر طوس شخص غير مهم. إنه واحد من ملايين المصريين البسطاء الذين قدر لهم أن يعيشوا ويبحثوا عن الرزق ويخوضوا نضالا مريرا من أجل مجرد البقاء على قيد الحياة، ومع ذلك فلا أحد يشعر بهم. إسكندر مثل ملايين الفقراء الذين يتحدث عنهم المحللون الاستراتيجيون باستفاضة فى الفضائيات، ويضعهم السياسيون جميعا فى برامجهم الانتخابية، لكن أحدا فى الواقع لا يعبأ بهم. كيف هى حياة إسكندر طوس؟! لقد بلغ الستين وهى سن يراود فيها الإنسان هاجس الموت، ويتمنى حسن الختام، ويفكر فى مصير أولاده بعد موته. إسكندر الحلاق لابد أن تكون علاقته طيبة بسكان القرية الذين هم زبائنه. أتخيل عم إسكندر وهو يعمل طوال النهار وربما يستريح قليلا عندما تنقطع الزبائن، ثم يخرج غداء بسيطا صنعته زوجته، أتخيله وهو يفتح محله فى ليالى الأعياد الإسلامية والمسيحية حين يصحب الآباء أولادهم من أجل «حلقة» العيد. عم إسكندر غالبا كان يحلق للمخبرين وأفراد الشرطة مجانا اتقاء لشرهم وتقربا منهم، فهؤلاء قد يكونون مفيدين وقت الحاجة، خصوصا أن إسكندر قبطى فى قرية ذات أغلبية مسلمة.. سكان قرية دلجا 120 ألفا يبلغ عدد الأقباط 20 ألفا والباقون مسلمون، وهم ليسوا مسلمين عاديين، وإنما معظمهم من أنصار الإخوان المسلمين، كانوا يؤمنون بأن محمد مرسى هو الخليفة المنتظر الذى سيعيد مجد الإسلام، ويجعل الإخوان أساتذة العالم كله، لما ثار المصريون ضد مرسى وعزلوه وانضم لهم الجيش أصيب أنصار الإخوان فى دلجا بغضب بالغ، وسافر الآلاف منهم للمشاركة فى اعتصامى رابعة والنهضة. ثم عندما تم فض الاعتصامين بواسطة الأمن اعتبر أنصار الإخوان فى دلجا ذلك حربا على الإسلام، الذين يعتبرون أنفسهم الممثلين الوحيدين له. توجه أنصار الإخوان إلى مساجد القرية وصعدوا إلى المنابر وأعلنوا الجهاد، أنصار الإخوان فى دلجا جميعا مسلحون بمن فيهم النساء وأحيانا الأطفال. خرجوا من المساجد وقد تملكتهم حماسة الجهاد وأحسوا بأنهم يخوضون غزوة مباركة، فهاجموا قسم الشرطة فى قرية دلجا وأحرقوه وسيطروا عليه.أصبحوا السلطة الحقيقية الوحيدة فى القرية وصار بإمكانهم أن يفعلوا ما يشاءون، ولأنهم يعتبرون الأقباط كفارا يعبدون الصليب، ولأن البابا تواضروس وافق على عزل مرسى واشترك فى خارطة الطريق، مثلما وافق واشترك شيخ الأزهر ومعهما 33 مليون مصرى، فقد اعتبر أنصار الإخوان أن حربهم مقدسة ضد الأقباط: هاجموا كل الكنائس فى دلجا ونهبوها بالكامل، ثم أحرقوها ومن ضمنها الدير الأثرى، الذى أنشئ منذ 1400 عام، وله قيمة أثرية لا تعوض، ثم توجهوا بعد ذلك إلى الأقباط، فكانوا يخرجونهم من بيوتهم ثم ينهبون البيت أمام أهله، وبعد ذلك يضرمون فيه النار. وقد أدت هذه الاعتداءات الرهيبة إلى هجرة عشرات الأسر القبطية خارج القرية، لكن أقباطا كثيرين لم يكن باستطاعتهم الفرار، فاضطروا إلى الإذعان لأنصار الإخوان ورأوا كنائسهم وبيوتهم تنهب وتحرق فلم يعترضوا بكلمة، بل إنهم قبلوا أن يدفعوا إتاوة لأنصار الإخوان حتى يكفوا أذاهم. هنا لابد أن نذكر أن الاعتداءات الطائفية على الأقباط لم تتوقف قط منذ ثلاثين عاما، فقد حدثت أثناء حكم مبارك، ثم استمرت أثناء حكم المجلس العسكرى وحكم الإخوان، وها هى تنتشر الآن فى أنحاء الصعيد بعد سقوط مرسى.. المعتدون على الأقباط غالبا ما يفلتون من العقاب لأن الحكومة المصرية بدلا من تنفيذ القانون وتقديم المعتدين إلى العدالة تعودت أن تضغط على الأقباط ليعقدوا جلسات صلح عرفية مع المعتدين عليهم، تنتهى دائما بحديث رائع عن الوحدة الوطنية وتبادل الأحضان والابتسامات أمام الكاميرات، ثم ينصرف الجميع وينسون الموضوع حتى تحدث موجة جديدة من الاعتداءات تستدعى عقد مجالس صلح جديدة. بعد عزل مرسى اعتدى أنصاره على الأقباط فى معظم محافظات الصعيد. لم يكن هدفهم الانتقام من الأقباط وترويعهم فقط، وإنما استفزازهم لكى يردوا العدوان عليهم، فتنزلق مصر إلى حرب طائفية يريدها الإخوان ويسعون إليها بإلحاح. على أن الأقباط تصرفوا بوعى وطنى رفيع، فلم يردوا العدوان ورأوا كنائسهم تحترق أمام أعينهم فلم يتورطوا فى قتال المتطرفين، على أن ما حدث فى دلجا كان أخطر من أى مكان آخر لأن أنصار الإخوان طردوا الشرطة تماما من القرية وقاوموا بالسلاح دخول الجيش فانفردوا بحكم القرية بلا منازع. صارت اختيارات الأقباط فى دلجا محددة ومحدودة: إما الهجرة خارج القرية أو دفع إتاوة مالية باهظة يوميا من أجل حماية بيوتهم وأسرهم. إسكندر طوس الحلاق تصرف بطريقة مختلفة. فهو لا يتصور أبدا أن يترك قريته التى عاش فيها حياته وهو لا يعرف مكانا آخر يذهب إليه، كما أنه فقير لا يستطيع أن يدفع الإتاوة من أجل حماية أسرته. جاء أنصار الإخوان وطلبوا من إسكندر الخروج من بيته مع أسرته حتى ينهبوا البيت ويحرقوه كما فعلوا مع عشرات الأقباط. ماذا فعل إسكندر طوس بالضبط حينئذ؟! ربما وقف ليحمى بيته ورفض الخروج منه.. ربما صاح معترضا، وربما نظر للمعتدين متحديا، وربما أفلتت منه كلمة لم تعجبهم. أيا كان الذى فعله إسكندر طوس أو قاله فقد فهمه أنصار الإخوان باعتباره تحديا سافرا لهم من نصرانى كافر وهم يخوضون جهادهم المقدس.. لابد إذن من عقاب شديد لهذا النصرانى يجعله عبرة بعد ذلك لأى كافر يتحدى الإسلام والمسلمين؟! أمسك أنصار الإخوان بعم إسكندر الحلاق وأشبعوه ضربا وركلا وصفعا وجرجروه على أرض الشارع، ثم برك بعضهم عليه وأمسك الآخرون بأطرافه ثم ذبحوه.. نعم.. ذبحوه بالسكين من الوريد إلى الوريد كما يذبح الجزار الخروف فى عيد الأضحى. هل خطر بذهن إسكندر طوس أنه سيدفع حياته ثمنا لاعتراضه على نهب بيته؟.. ماذا قال لهم عندما تأكد أنهم سيذبحونه؟! هل توسل إليهم لكى يتركوه حيا من أجل أولاده؟ فيم فكر إسكندر عندما تلقى أول ضربة سكين على رقبته؟.. هل استمر الألم طوال عملية الذبح أم أنه أسلم الروح من ضربة السكين الأولى؟!.. هذه أسئلة لن نعرف إجابتها أبدا. ما نعرفه أن أنصار الإخوان ذبحوا إسكندر وتعمدوا ألا يفصلوا رأسه تماما، ثم اتفقوا مع صاحب جرار زراعى وأوثقوا المذبوح من قدميه وسحلوه، وهكذا رأى أهل القرية إسكندر طوس الحلاق للمرة الأخيرة مذبوحا مسحولا خلف جرار، بينما رأسه المقطوع يتأرجح والدم يسيل منه غزيرا فيصنع خطوطا على الأرض. بعد ما انتهى أنصار الإخوان من موكب المذبوح ألقوا بجثة إسكندر فى الشارع، فلم يجرؤ أحد من أهل القرية على الاقتراب منها خوفا من أن يلقى مصير إسكندر، وفى النهاية جاء رجل طيب (مسلم) وقام بدفن إسكندر فى مقابر الصدقة المسيحية، لكن أنصار الإخوان عادوا بعد قليل لما اكتشفوا أنهم نسيوا تصوير إسكندر وهو مذبوح، فقاموا بإخراج جثته مرة أخرى وصوروها بتليفوناتهم المحمولة حتى اكتفوا وكاد أحدهم يتسلى بإطلاق الرصاص على الجثة لولا أن منعه زملاؤه (ربما توفيرا للذخيرة). هكذا انتهت حياة إسكندر الحلاق فى قرية دلجا. إنه يرقد الآن فى مقابر الصدقة بعد أن تم ضربه وذبحه وسحله على مرأى من المارة وتصويره بعد التمثيل بجثته. ماذا فعل إسكندر طوس حتى يلقى هذا المصير؟.. صحيح أنه إنسان غير مهم وفقير ومن طبقة اجتماعية متواضعة وليست له معارف فى الأوساط العليا، لكنه كان رجلا شريفا مجتهدا يعمل بإخلاص مقابل بضعة جنيهات يوميا ينفقها على أولاده. ألم يكن من أبسط حقوق إسكندر طوس أن يعامل باحترام وإنسانية؟.. ألم يكن من حقه على الدولة التى يدفع ضرائبها أن تحمى حياته وبيته وممتلكاته البسيطة؟.. وإذا كان قدره أن يموت ألم يكن من حق إسكندر أن يموت بكرامته فيودع الدنيا بطريقة كريمة كما يليق بأى إنسان؟!.. كيف يشعر أولاده وقد رأوا أباهم مذبوحا وجثته مسحولة يتفرج عليها الناس ويصورونها بهواتفهم؟! فى أى بلد يتم ذبح المواطن وسحله لأنه اعترض على نهب بيته، وفى أى دين تكون حياة الإنسان رخيصة لهذه الدرجة فيتم ذبحه لأنه قال كلمة أو نظر نظرة لم تعجب أنصار الإخوان.. ألم يسمع أنصار الإخوان عن قيمة النفس الإنسانية فى الإسلام؟! ثم هل تحولت دلجا إلى إمارة إخوانية، وهل عجز المسؤولون فى الشرطة عن الدخول إليها أم أنهم آثروا السلامة وتركوا أقباط دلجا لمصيرهم؟!.. منذ أعوام قام أحد المتطرفين بقتل مروة الشربينى فى ألمانيا فقامت الدولة الألمانية كلها ولم تهدأ إلا بعد أن نال قتلة مروة جزاءهم العادل، لكن إسكندر طوس يذبح فى بلده وسط قريته فلا يتحرك مسؤول واحد ولا تنشر الصحف عنه إلا كلمات قليلة. الفرق بين مروة وإسكندر أنها قتلت فى بلد يحترم الإنسان، بينما إسكندر تم قتله فى مصر، حيث قيمة الإنسان تتحدد وفقا لدينه وثروته ومكانته الاجتماعية. سلاما يا عم إسكندر طوس. نعتذر إليك لأننا لم نستطع أن ندافع عنك كما كان يجب علينا. إننى أدعو المصريين جميعا، المسلمين قبل الأقباط، إلى تبنى حملة من أجل رعاية أبناء الشهيد إسكندر طوس وتقديم من قتله إلى العدالة. الثورة مستمرة حتى تنتصر مصر على الإرهاب وتقيم الدولة المدنية العادلة التى لا يؤذى فيها مواطن بسبب دينه أو أفكاره أو فقره.