تعرف الأوضاع في سوريا تطورات متسارعة غير متوقعة تجعل من المستحيل استقراء مستقبل البلد القريب والبعيد، ومن الصعب معرفة حدود تأثير ذلك على منطقة الشرق الأوسط برمتها بل وربما العالم. لعل أبرز ما كشفته الحالة السورية أن التجربة على الأرض أظهرت أن حسابات كل اللاعبين في الرقعة السورية دون استثناء إنما هي حسابات فارغة. المشهد في سوريا يقدم لوحة سوريالية مخضبة بالدماء وبرائحة البارود تستعصي على الفهم. النظام يتشبث بالسلطة حتى ولو خرب البلد، والمعارضة لها ألف وجه، من المعارضة السلمية إلى تنظيم القاعدة. حزب الله يتدخل في الحرب الأهلية السورية بعد أن ردد طويلا أن سلاحه لمواجهة إسرائيل فقط. إيران تدعم النظام وتتنكر لتطلعات الشعب السوري، بينما أمريكا وأوروبا في حيرة من أمرهما. إسرائيل تقصف مواقع داخل سوريا، وتركيا تتعرض لتفجيرات تقتل العشرات، والبقية تأتي. نقطة البداية في كل ما يجري اليوم وفي كل ما سيقع غداً توجد في سوريا ما قبل "الربيع العربي". سوريا عاشت لعقود في ظل - بل في ظلمة - الحزب الوحيد والرأي الوحيد. الشعب السوري ذو التاريخ العريق عانى طويلا من القهر والحرمان. لا حرية ولا كرامة ولا أفق يحيي الأمل تحت سطوة حزب البعث. قوانين الطبيعة قوانين إلهية، ومن العبث كما هو من قلة الأدب أن يحاول الإنسان أن يتحدى المشيئة الإلهية التي بجبروتها تقهر كل مشيئة. الحرية حق إنساني أصيل ونعمة إلهية، وهو ما لم يدركه حزب البعث في سوريا في أوانه، وظن متوهما أن القوة والقسوة صمام أمان. في البلاد التي لها حظ ولو قليل من الحكمة، حين يضغط طرف من أجل التغيير، يستجيب الطرف الثاني ويتنازل بعض الشيء بما يخلق توازنا جديدا، ثم تتكرر العملية بين شد وجذب الى أن يتحقق التغيير المنشود بأقل كلفة ويستقر الأمر على واقع جديد. لكن حين يشتد الشوق إلى الحرية والتغيير ويقع الضغط من جانب ولا من مجيب من الجانب الآخر، ثم يكبر الضغط ويتعاظم أكثر وأكثر فلا مفر من أن يقع الانفجار في آخر المطاف. هذا هو "القانون الطبيعي" الذي يفسر كل الثورات التي عرفها التاريخ، وهذا بالذات ما حصل في سوريا. التجربة تثبت أنه حين يقع انفجار يضيع زمام الأمور ويتعذر التحكم في الوضع، ولن يفيد النظام في سوريا الاستعانة بروسيا أو بإيران أو بحزب الله أو بأي كان. ثم إنه من عواقب حدوث الانفجار استحالة العودة إلى الوضع السابق، كما هو مستحيل جمع أشلاء قارورة تفجرت بفعل ضغط الغاز...لا شك أن النظام السوري يتمنى في قرارة نفسه لو عادت به الأيام إلى الوراء كي يحضن المعارضة، ويطلق الحريات، ويشرع في الإصلاح و و و...لكن هيهات. المعارضة السورية من جهتها لم تتحل بالحكمة وبعد النظر. بعد أن كان مشروعها سلميا، لم تصبر على شراسة وعنف النظام ولجأت إلى السلاح، ففتحت الباب مشرعا أمام التدخل الأجنبي، ودفعت البلاد نحو الحرب الأهلية. لا مستقبل لسوريا إذا دمر البلد واشتعلت الفتنة بين أبنائه، ولن يظفر بسوريا لا النظام ولا المعارضة، اللذان سيكتشفان بعد حين أنهما كانا يجريان وراء سراب. أمريكا وأوروبا ومعهما دول عربية ظنوا أن النظام السوري سينهار سريعا كما كان الحال في تونس وليبيا ومصر، وسارعوا إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة بتبني المعارضة بشكل يجافي القانون الدولي ويتجاهل الواقع على الأرض. وما زاد من تخبط الوضع أن روسيا وقفت بالمرصاد لمحاولات إسقاط النظام السوري بعد أن استوعبت الدرس الليبي. روسيا رفضت استصدار أي قرار من مجلس الأمن يسمح بتدخل عسكري جديد يفضي إلى تراجع النفوذ الروسي في المنطقة. غير أن حرص روسيا على إثبات وجودها كقوة عظمى ودعمها للنظام السوري ستؤدي ثمنه غاليا لأن الشعب السوري لن ينس لها هذا "الجميل" الذي كلف السوريين الشيء الكثير. إسرائيل، من جهتها،استغلت الوضع وهاجمت مواقع داخل سوريا بدعوى منع وصول أسلحة متقدمة إلى حزب الله اللبناني. وقد يظن الإسرائيليون بأن الفوضى في سوريا تخدم مصلحتهم، لكن يجهلون ربما أن قصف بضع مواقع في سوريا قرار أخرق، لأنه لن يؤثر كثيرا في واقع الأمر، بل حصدوا بالمقابل قرار خطيرا لحسن نصر الله بفتح الجبهة في الجولان. من غرائب ما أفضت إليه الأوضاع في سوريا كذلك أن يتدخل حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري. كيف يمكن أن يبرر الحزب اللبناني سياسيا أو أخلاقيا أن يؤيد نظاما معاديا لحرية الشعب؟ حركة حماس كانت أكثر حكمة بأن نأت بنفسها عن صراع من هذا النوع. فإذا كان النظام السوري دعم المقاومة في حق، فليس للمقاومة أن تدعمه في باطل. أما تركيا جارة سوريا فلم تسلم بدورها من المطب. حزب العدالة والتنمية أثبت في السنوات الأخيرة كفاءة كبيرة في قيادة تركيا سياسيا واقتصاديا، غير أن تعامله مع الأزمة السورية لم يكن موفقا. يحسب لتركيا جهودها الإنسانية في إيواء ورعاية اللاجئين السوريين، لكن قرار القطيعة مع النظام السوري، وأخطر من ذلك فتح حدودها لتسليح المعارضة السورية، جعلها تزيد من معاناة السوريين وتعرض مصالحها للخطر. التفجيرات الأخيرة في جنوب تركيا تصعيد خطير وهو ولا شك مرتبط أشد الارتباط بما يقع في سوريا. الانجازات الكثيرة التي حققتها تركيا خلال سنوات قد تتبخر بسرعة بفعل خطأ سياسي وحسابات غير موفقة. البناء مجهود شاق وطويل، لكن الهدم أمر يسير. المعركة في سوريا معركة من صنف خاص، لأن لا منتصر فيها، فالكل منهزم يَعُد خسائره أو سيعدها بعد حين بعد أن يستفيق من نشوة انتصار وهمي عابر. لا فرق في ذلك بين السوري المؤيد والسوري المعارض واللبناني والإسرائيلي والتركي والإيراني والأمريكي والروسي وباقي المتدخلين الكبار أو الصغار.