يتشبث الشعر بالأساسي في الحياة البشرية، وكذلك أتصوره في زمننا. لقد جعل العرب القدماء من الشعر نشيدهم الأسمَى، الذي يضيء أيامهم ويفتح لحياتهم أفقاً لا ينتهي. وكان الشعراء حريصين على أن تكون قصيدتهم ملتصقة بتجربة الوجود، في أقاصي الصحراء، يواجهون الموت بحب الحياة. ثم امتدت القصيدة بين دمشق وبغداد وإشبيلية وفاس. ونحن، في حياتنا الحديثة، نحتاج إلى هذه القوة التي تضيء لنا حياتنا. إن ارتباط الشعر بكل من الحب والنبيذ يعود إلى جذور الحياة التي يعضد بعضُها بعضاً. وعندما تعود القصيدة، من جديد، إلى هذه الجذور، فهي تعود إليها بدلالات مختلفة عن تلك التي كانت لها في السابق. وأهم هذه الدلالات هي الحرية. إن الشاعر الحديث ينتمي إلى الحرية الفردية في ممارسة كل من الحياة والكتابة. بهذه الحرية يختار أن يغني الحب، كقيمة إنسانية، ويمجد النبيذ الذي يعطي الجسد الشعور بالنشوة والفرح. بل إن الشعر الحديث يأخذ دوره في تغيير القيم المتعارضة مع الحرية الفردية والجماعية في آن. وهو لأجل هذا يريد أن يذكّر بقيمة الحب، بمعنى عشق الجسد الحيّ حتى يبلغ الجنون، في زمن يتنكّر للحب؛ كما يصر على أن يجعل من اللذة والمتعة، اللتين يقدمهما لنا النبيذ، طريقة في تمجيد الحياة. من هنا يبدو لي أن الشعر، في زمننا، لا بد أن يظل قريباً من هذا الأساسي الذي نؤكد به على حبنا للحياة، مهما كان الشرط الذي نحيا فيه. وهو، من ناحية أخرى، الحب الأكبر الذي يلخص معنى القصيدة مثلما يلخص معنى الوجود. فلا فرق بين الشعر والحب والنبيذ. كل منها يولّد الآخر ويؤدي إليه. بالعشق واللذة نكتب القصيدة، حتى لا كلام سوى الشطح، كما أننا بالشعر نحب ونحس بالمتعة القصوى، فيما الشعر هو لغة الجسد التي تجرؤ على أن تكتب ما نحس في تخوم الصفاء. لا يعبأ الشعر بغير الجميل، المفاجئ، الغريب. فاللغة الشعرية هي القدرة على مفاجأة الذات بالمستحيل، والحب لقاء مفتوح على الآخر، أما النبيذ فهو أبجدية صعود الحواس إلى مناطق الضوء. هكذا اكتشفت، شيئاً فشيئاً، تكامل وتفاعل هذه العناصر من خلال البحث الذي لا ينتهي عن معنى الشعر في زمننا. وقد كان عليّ أن أتحرر من قناعات مضادة للشعر والحرية حتى ألتقي بالحب في تجاربه الإنسانية الواسعة، وبالنبيذ في عوالم الأسرار. وقد كان عليّ، كل مرة، أن أكون منتصاً إلى نفسي التي تكلمني وأنا في صمت أنظر إلى ما حولي وأتتبع المصير الفردي والجماعي. إنه البحث الذي تعلمته من القصيدة نفسها، وهي تنقلني من المجهول إلى المجهول. إن الشعر، وهو يغني الحب والنبيذ في زمننا، يصاحب القدماء بدلاً من أن يكون خاضعاً لهم. ويبتعد عنهم بقدر ما يقترب منهم، في شعرهم الدنيوي والصوفي على السواء. تلك طريقة أختار بها أن أكتب قصيدة في زمننا. يواجه الجسدُ في هذه القصيدة الفناءَ بنشيد الشوق الذي لا يفنى. مواجهةٌ اسمُها حرية المقاومة. إنها الحرية التي يدافع الشعر عنها من حيث هي حرية شاملة، لا يتكلم فيها سوى المجهول. لأن المجهول هو وحده الذي يبرر كتابة قصيدة في زمن ترتفع فيه أسوار الممنوعات من كل جهة، مثلما تتكاثر فيه وسائل تدمير قيم الإبداع، من شرق الفقهاء والمستبدين إلى غرب ينتصر فيه الرأسمال وثقافة الإعلام. لكل هذا فإن الشعر، الذي حاولت كتابته، بحث دائمٌ عن الحر والحرية في آن. وقد أعطاني الحب والنبيذ، جنباً إلى جنب، إمكانية أن أسترجع قوة التشبث بالحياة في القصيدة، وأن أجعل من النشوة واللذة دليلين في رفض قيم العبودية.