عيون تقتفي أثرنا باحترافية عالية، وأصحاب الضيعات قد ينتقمون منك في أية لحظة، والعاملات لا تتكلمن إلا بصعوبة بسبب الخوف والخجل، كأننا نسير نحو المجهول. أيام طويلة من البحث، طرقنا خلالها العديد من المنازل المتواضعة التي تأوي هذه النساء، هذه تحكي لنا عن ابن صاحب الضيعة الذي اغتصبها وترك في أحشائها جنينا تتكلف حاليا بإعالته مع العلم أن سنها لم يتجاوز 19 سنة، وهذه تسقط في حادثة شغل لتبقى بعجز دام شهرا دون تعويض، وتلك تقضي 30 سنة من حياتها في الضيعات لتجد نفسها مقبلة على دار العجزة، وكلهن تشتركن في ألم العمل لساعات طوال بقليل من الأجر وكثير من المهانة.. أن ترى بأم عينيك ليس كأن تسمع، نساء تركن المعول والحفر ووقفن أمامنا يشكين ألم الزمان، أما المشرفين فقد أصروا على أن الوضع ليس بتلك الصورة القاتمة، لكن كثير من الصعوبات اعترضت عملنا الذي دام شهرا كاملا من البحث، خاصة وأنه تزامن مع شهر رمضا حيث الحرارة المرتفعة التي جعلت الكثير من العاملات يتغيبن عن العمل أو يذهبن لقضاء هذا الشهر في مناطقهن الأصلية على اعتبار أنهن مهاجرات، لكن في النهاية، ما وجدناه يكشف عن حقيقة ما يحدث في هذه الضيعات، لعل الوضع يتحسن فعلا مستقبلا ..على اعتبار أن الكشف عن الواقع هو أول الخطوات نحو تغييره..وذلك في زمن التغيير العربي.. لم يكن من السهل اللقاء ب"وفاء" التي لم تكمل عقدها الثاني بعد، ولذلك كان علينا أن نمر عبر بعض الوسطاء من الأصدقاء المشتركين، لكن اللقاء بوفاء يمر أيضا عبر المحن والمآسي التي لا تنقطع. لم تكمل وفاء مشوارها الدراسي الذي توقف في المرحلة الابتدائية، ودعت وفاء مقاعد الدراسة ببني ملال قبل أن تجتاز امتحانات الصف الخامس، ليس لأنها لم تكن ترغب في استكمال دراستها التي كانت تعشقها حد الجنون، لكن لأنها فتحت عينيها وسط عائلة جد متواضعة. مغادرة فصول الدراسة المفاجئ لم يكن هو المعاناة الحقيقية التي عانقت وفاء محنها النفسية وهي طفلة صغيرة، فقد اعتاد سكان بني ملال مشاهد الأطفال وهم يمرحون في الشوارع أو يعملون في الورشات المختلفة، لكن الارتماء في الأعمال المنزلية الشاقة هو الذي قلب حياتها رأسا على عقب. قضت وفاء السنوات الأولى من فترة المراهقة الحساسة في هذه الأجواء العائلية الحزينة، ثم شاءت الأقدار أن تقع وفاء في حب أحد أبناء الحي الذي قررت الهروب معه ومغادرة المنطقة ككل، خصوصا بعدما علمت أنها لن تستطيع الزواج في ذلك العمر بسبب التربية المحافظة لعائلتها أولا، وثانيا لأن وفاء لم يكن عمرها يزيد عن 15 سنة:"هربت إلى خالتي التي تقطن بهوارة" تقول وفاء وهي تتذكر بصعوبة شريط الحياة الأولى الذي قصته بمغاردة العائلة من بني ملال إلى هوارة بأكادير، ثم تضيف:":"لم تكن وضعية خالتي أحسن حالا من عائلتي، خصوصا أنها كانت امرأة مطلقة ولديها بنت تكبرني سنا تقاسي كثيرا من أجل تربيتها، من خلال العمل في الضيعات الموجودة في المنطقة". من هنا جاءت فكرة العمل بالضيعات الفلاحية. ومن هنا بدأت وفاء مشوارا مغايرا للذي عاشته في بني ملال، لكن الفكرة لم تكن هينة في البداية، وهي اليافعة المراهقة التي لا تقوى على جني الثمار وزرع البذور، لكن ما كل شيء يكون في البداية سهل، ولذلك كان عليها أن تألف العالم الجديد والشاق أيضا. سنة بعد اقتحام هذا العالم الجديد، ستتعرف وفاء على حمزة الذي لم يكن غير ابن صاحب الضيعة، وككل استلطاف في البداية، يتحول إلى اعجاب، ثم إلى حب فوعد بالزواج، لكن الحب كان أقوى من أن تنتظر وفاء بلوغ 18 سنة لتدخل القفص الذهبي، ولذلك وقعت في ما لم تكن تنتظره. حكاية "عطاشة" ظل الحب يترعرع بين وفاء وحمزة، فتحول إلى جنس ثم إلى حمل، فجنين، فمصيبة. وفاء القاصر أصبحت أما. وكأي مصيبة غير منتظرة لا بد وأن تحمل معها مفاجآت غير سارة، حيث اختفى حمزة نهائيا، ولم يكن أمام وفاء غير العودة إلى أحضان العائلة ببني ملال لتقضي فيها فترة الحمل، لكن والدتها رفضت رفضا قاطعا، فعادت من حيث أتت، وهذه المرة رفقة أختها التي عاشت نفس المصيبة مع شاب اختفى عن الأنظار، مثل حمزة. فتحت فرح عينها إلى جانب أمها وفاء دون حمزة، وفي نفس الوقت الذي كانت تعيش فيه المأساة في العمل في الضيعة الفلاحية، كان عليها أيضا أن تقاسي نظرات وهمسات الجيران والأصدقاء، من يكون والد فرح؟ لم يكن بإمكان وفاء أن تظهر دون مشاكل في نفس الضيعة التي تتذكرها بأيام الشؤم، وكيف لها ذلك وهي تضطر أن تحمل معها ابنتها فرح، ابنة حمزة الذي كان يدير ظهره في كل مرة يلتقي فيه بوفاء صدفة. فرح أو قرح لا يهم ما دامت وفاء قد قررت الخروج إلى عالم الدعارة. هكذا تتذكر وفاء وعينها تلمع بالدموع. كانت وراءها ضيعة بصمت حياتها بالذكرى المشؤومة، وكان أمامها فرح التي تنتظر العناية والاهتمام، وكلاهما يفرضان ميزانية لم يكن بإمكان وفاء أن تجلبها من عمل موسمي في ضيعات هوارة، وكان أمامها أيضا عار لم تمسحه بعدما وصل الخبر إلى بني ملال. الأم العازب هكذا أصبحت وفاء المراهقة أما عازبة بعدما قضت شهورا قليلة في العمل بضيعة بهوارة، لكن وفاء ليست أسوأ حالا من فاطمة التي جمعتنا بها ساعات ذو شجون في غرفتها المتواضعة جدا بسلاليمها المهترئة وجدرانها التي تحمل آثار رطوبة متقدمة. فاطمة ليست كما وفاء. وفاء التي قضت خمس سنوات في صفوف الدراسة، ليس كما فاطمة التي فتحت عينيها على الحياة لتكتشف أنها طفلة خادمة، والسبب يعود إلى الظروف الاجتماعية القاسية لأسرتها، وهو السبب الوحيد الذي رمى بها إلى العمل لدى عدة أسر، قبل أن تستقر بها تقلبات الحياة في العمل في الضيعة إلى جانب وفاء. تقول فاطمة بحزن شديد:"أستيقظ في الرابعة صباحا، وأقضي ساعة مشيا لأصل إلى ذلك المكان المخصص لاختيار النساء اللواتي سيتوجهن للعمل في الضيعة، قبل أن يتم نقلنا في شاحنات وعربات في مشهد يذكرنا بعيد الأضحى حينما تحمل الأغنام والأكباش إلى الأسواق دون اهتمام لآدميتنا". الساعة السابعة صباحا، والعشرات من الأسر بهوارة لم تستيقض بعد، لكن فاطمة التي احتفلت مؤخرا بعيد ميلادها الخامس عشر مثل وفاء، تقص حينها شريط المأساة اليومي في الضيعة:"يمكن أن نزرع البذور، ويمكن أن نقطف الثمار، حسب الفصول، لكن الأجر لا يتغير، ويتراوح بين 50 درهما و70 درهما:"نشتغل من السابعة صباحا إلى السادسة مساء، ويمكن أن نعمل بطريقة القطعة، حيث يُفترض أن نملأ 25 صندوقا من الثمار التي قد تكون برتقالا أو تفاحا أو موزا على أساس أن نغادر الضيعة حين الانتهاء من هذا العمل". إنه العمل الشهير في القاموس الشعبي "العطش". فاطمة، وفاء، والكثير من زميلاتهما، اضطررن في بعض اللحظات إلى التوجه للعمل في ضيعات بعيدة لا يعرفون طبيعة العمل بها. لا يهم إن كان أكثر صعوبة وقساوة، ما دام صاحب الضيعة قد يزيد بضعة دراهم تسد الكثير من الحاجيات الضرورية لفاطمة التي تضطر للعودة إلى منزلها المتواضع في نفس الفترة التي يسدل فيها الظلام ستاره، ولا يهم أيضا إن عاشت نفس مشهد "الحوالة" الذي بدأت به صباحها، لكن هذه المرة عبر سيارات "الخطافة". كل ذلك لا يهم، ففاطمة التي توقفت عن الحديث قليلا بدعوى إعداد مائدة الشاي، عادت من مطبخ بسيط حزينة جدا، وهي تتذكر كيف اضطرت العديد من زميلاتها للانصياع للرغبات الجنسية لمشغليهم. قالت لنا فاطمة أن العاملات في الضيعات الفلاحية إما أن يلبوا هذه الرغبة الوحشية أو يغادروا الضيعة.:"إنهم يختارون العاملات الجميلات، علما أن بعض العاملات يرغبن في الحصول على المال بسرعة فيخترن مثل هذه العلاقات، لكن هناك عاملات تم اغتصابهن بالقوة"، تقول فاطمة وتختم بحزن شديد:"ما يقع في هذه الضيعات يندى له الجبين". في الطابق الأول للعمارة التي تقطنها فاطمة، تعيش أحد أقرب صديقاتها. إنها فتيحة التي كانت تعد وجبة العشاء في منزل عبارة عن غرفة بها الأثاث والأواني وقارورة الغاز والتلفاز الذي كان يتابع برامجه ابنها الذي لا يزيد عمره عن الثماني سنوات. تسميها فاطمة بالمرأة الحديدية، وفي ذلك سر ستتعرفون على حيثياته بعد أن تتعرفوا على حياتها التي بدأتها سعيدة في أسرة متوسطة من أب متعلم وصاحب مقهى وأراضي ورثها عن والده، لكن قصة فتيحة ستتحول إلى كرب وحزن بعدما قضت شهورا قليلة في زواج انتهى إلى مأساة مشتركة بين نظرة مجتمع لا يرحم مطلقة، وابن تتطلب رعايته ميزانية لم تقوى عليها فتيحة. لذلك غادرت فتيحة كل أرجاء المنطقة التي تقطنها عائلتها، والتحقت بوفاء وفاطمة بالضيعة نفسها، وقد فضلت العمل به بقانون القطعة، أو "العطش" كما فاطمة، فيما تقضي الوقت المتبقي من اليوم الشاق في عمل آخر بالمعامل. لفتيحة رأي خاص في مزاوجة العمل بين الضيعات الفلاحية والمعامل المجاورة فلنستمع:"العمل في المعامل يوفر التغطية الصحية ويعطي الإحساس بنوع من الأمان، عكس العمل في الضيعات الفلاحية المفتوح على التعاسة دائما. تقسم فتيحة العام إلى فترتين، الفترة الأولى وتمتد من نونبر إلى أبريل والتي تقضيها في المعامل، والفترة المتبقية الممتدة من أبريل إلى نونبر تشتغل خلالها في الضيعات الفلاحية، وهو العمل الذي تفضل أن تشتغل فيه بقانون القطعة، وذلك بغية الانتهاء مبكرا للعودة إلى المنزل، مخافة الوقوع في قبضة قطاع الطرق. سميت فتيحة بالمرأة الحديدية ليس لأنها تعمل في الضيعات الفلاحية وفي المعامل فقط، ولكن لأن صورتها وهي تحمل بذور البطيخ الثقيلة فوق ظهرها إلى الحافلات لنقلها إلى المخزن، وهو العمل الذي يقوم به الرجال عادة، وذلك لكي تحصل فتيحة على نفس الأجرة التي يتسلمها الرجال في نهاية اليوم: مائة درهم، بدل سبعين درهم للنساء. إنه عمل شاق تعرضت بسببه فتيحة لحادث كاد أن ينهي حياتها، خصوصا حينما سقطت من أعلى شجرة، لكنها كانت أحسن حظا من صديقتها التي أُصيبت بكسر في يدها دون أن تعوض:"يمكن في أي لحظة أن تفقد حياتها. إنها ضيعات فلاحية أشبه بالسجون، لا يؤمن أصحابها بالرحمة".