قلما يبتسم، وتزيده لمسة الشيب التي تعلو رأسه وحاجبيه المقطبين باستمرار وملامحه الغليظة صرامة. ولا أحد اعتقد أن الوزير الذي اتهم بالشعبوية حينما انتقل إلى الديوان الملكي بسيارة "الكونكو" خلال تعيينه وزيرا للنقل والتجهيز، سيخلق الحدث بعد أقل من شهرين على تسلمه السلط في وزارته.. فلا حديث في اللقاءات العائلية وقاعات الأحزاب السياسية، وإذا شئتم حتى في المقاهي وفي مواقع الدردشة الرقمية ..، لا حديث مع مطلع هذا الشهر، إلا عن النجوم الذين استفادوا من "كريمات" النقل منذ سنوات تعود بعضها إلى عهد الملك الراحل الحسن الثاني. الزمزمي ومنى فتو ونعيمة سميح ورجالات "الكاب 1" ونوال المتوكل ونور الدين النيبت وأصهار الملك آل أمحزون وابنة عمة الملك للا جمانة ... وما يربو عن 3000 مغربي استفادوا من مأذونيات نقل، أدرت عليهم الملايين من المال العام، وها هو محمد، ولا يهم من يكون، وهو يستغرب من هؤلاء الذين ظلوا يستفيدون من مأذونيات النقل لسنوات مع أنهم، حسب تقييمه، لم يكونوا في حاجة إليها، وها هي هند صديقة محمد تتساءل عن ما يجب أن يلي هذه الخطوة، وها هما معا في ذلك اللقاء الهادئ يستاءلون عن من يكون صاحب هذه القنبلة؟ فمن يكون عزيز الرباح؟ سيظل شهر مارس 2012، محفورا في ذاكرة ابن سيدي قاسم، ففيه خرج عن صمته بعد أقل من شهرين من وصوله إلى الحكومة، وفيه فجّر قنبلة شدت انتباه الكثير من المغاربة. لم يكن أحد من مجايل محمد وهند الذين أطفأوا شمعتهم العشرين قبل شهور فقط، يعتقدون أن الحكومة الملتحية ستخرج هذا الملف إلى الواجهة بعدما ظل تحت الرماد وأكثر من طابو، ولم يكن حتى بعض من وزراء حكومة عبد الإلاه بنكيران يعتقدون أن يفجر هذه القنبلة ابن سيدي قاسم وأحد عشاق العلوم الرياضية وهندسة المعلوميات.. ابن سيدي قاسم وفى بوعده الذي قطعه على نفسه، حينما قال أنه سيكشف قريبا عن المستفيدين من مأذونيات النقل، وخرج هذه المرة، على غير عادته، والإبتسامة تعلو محياه من مكتبه بوزارة النقل والتجهيز، بعدما أعطى أوامره لنشر لائحة المغاربة الحاصلين على كريمات النقل على الموقع الإلكتروني للوزارة. لم يكن الخبر عاديا، بدا خارجا عن المألوف في بلد تحمل فيه الكثير من مؤشرات اقتصاد الريع معاني العطايا والهبات، ولذلك كان لا بد أن يخلف كشف القناع عنها الكثير من ردود الفعل في وجه وزير رأى النور سنة 1962، وتدرج في صفوف حزب العدالة والتنمية إلى أن وصل أمانته العامة. دقيق وحاسم، ولعلها الصفات التي اكتسبها من ولعه بالرياضيات منذ حصوله على شهادة الباكالوريا في علوم الرياضيات سنة 1981، قبل أن ينتقل إلى معهد الإحصاء والاقتصاد التطبيقي سنة 1985، ومنه إلى الديار الكندية حيث حصل على شهادة الماجستر في هندسة البرامج من جامعة "لافال". سينهي ابن سيدي قاسم مشوار التحصيل العلمي في نهاية عقد الثمانيات من القرن الماضي، ليبدأ مشوارا مهنيا قاده في البداية إلى قسم نظام المعلومات بوزارة التجارة الخارجية مهندسا، فمسؤولا عن أنظمة المعلومات ثم مكلفا بمهمة لدى الوزير الأول إدريس جطو. فلم يكن مهما بالنسبة لللتكنقراطي جطو إن كان الرباح أحد الوجوه القيادية في حزب العدالة والتنمية، كما لم يولي كثيرا من الأهمية جطو وهو يخلف اليوسفي، إن كان الرباح الذي حرص على أن يكون ضمن فريقه زعيما لشبيبة حزب العدالة والتنمية.. لهذا اختاره جطو كان هاجس جطو معيار الكفاءة والتخصص في عالم التكنولوجيا وهندسة البرامج، وهذا ما مهد الطريق لاختيار الرباح الذي راكم تجربة معتبرة في تكنولوجيا المعلوميات، حيث كان عضوا في اللجنة الوطنية لتكنولوجيا المعلومات سنتي 1997 و1998، ثم رئيسا لفريق العمل لتكنولوجيا المعلومات بوزارة التجارة والصناعة بين سنتي 1997 و2005، ثم عضوا باللجنة الوطنية المشرفة على إعداد الاستراتجية الوطنية بين 2000 و2001، ثم عضو اللجنة الوطنية المكلفة بالتجارة الالكترونية بين 2000 و2001. ظل هو هو، قبل أو بعد عودته من المهجر حيث تابع دراسته الجامعية. فلم تغيره لا رياح كندا التي درس فيها لسنوات، ولا الثقة التي وضعها فيه جطو، وباتت مصدر اعتزازه. لهذا يقول عنه رفاقه، إنه لم يتغير وظل "ولد الدرب" المتواضع، وسدى يحاول بعض من أصدقائه إقناعه بتغيير أماكن اختيار ملابسه وتردده على بعض المقاهي والمطاعم، فبالنسبة له تلك أماكن لا تشبهه ولا تتلاءم مع معدته. فحينما دقت ساعة الحملة الانتخابية التشريعية الأخيرة بسخونتها وتداعياتها، اغترف ما يكفي من الفول المطحون بنكهة زيت الزيتون في مضغة من الحجم الكبير وتناول وجبة "البيصارة" أو الأكلة الشعبية والتاريخية مع أصدقائه القدامى.. نفس الأمر حدث حينما اختار السيارة المتواضعة للحزب للذهاب إلى القصر الملكي لحظة تعيينه وزرا للتجهيز والنقل، مثلما أصر قبل تنصيب الحكومة من طرف البرلمان على أن يركب القطار بين القنيطرة والوزارة، على الرغم من الانطباع الذي تركه لدى الكثيرين من أنه مجرد تصرف غارق في الشعبوية. قليل الكلام، داخل الحزب وخارجه، وقسمات وجهه الحادة، توحي أن وزير النقل والتجهيز رجل مواجهة واصطدام، وجزء من هذا الانطباع قد يكون صحيحا حينما يتعلق الأمر بأحد خصومه السياسيين، وهو ما حدث مع محمد الساسي في البرنامج التلفزي على القناة الثانية بمناسبة مناقشة الدستور الجديد، وهو يصرخ في وجه القيادي في الحزب الاشتراكي الموحد:"عليك أن تحترم السي بنكيران"، قبل أن يرد الساسي"بنكيران صديق طفولة". هو هو لا يتغير دقيق لدرجة يكره معها الالتباس، ولا يهمه إن بدا صارما إذا تعلق الأمر بقضية هامة في الحزب أو خارج الحزب، وهو ما حدث حينما ردد راديو الشارع أن للرباح زوجة ثانية، فخرج ليكذب ما اعتبره إشاعة، وأنه لا يملك عقارات كما تردد حينها، عدا شقة في مدينة القنيطرة في ملكية زوجته التي استفادت من إرث عقاري، وأنه يتوفر على سيارة من نوع "كيا سيراتو" اقتناها بواسطة قرض مالي، وأنه يرغب في تغييرها بأخرى من نفس النوع، وأنه لا يملك أي عقار لأنه لا يملك مالا لذلك، وأن الشقة التي يقطن فيها هو وأسرته الصغيرة تكفيه. لقد فجر عزيز الرباح قنبلة من الحجم الكبير، ووضع كل أصحاب الكريمات في الواجهة، ولذلك صفق له البعض، فيما أغضب آخرين، ليسوا بالضرورة أصحاب الكريمات ولكن بعض من زملاءه في الحكومة ومنهم نبيل بنعبد الله الوزير الذي اعتبر أن محاربة اقتصاد الريع تتطلب سياسة شمولية وليس إجرءات أحادية، ولربما كان وراء غضبة وزير الإسكان إحساسه بأن الرباح قد أضاف إليه وإلى حزب العدالة والتنمية نقطة إيجابية في علاقته مع المغاربة. قد لا يكون نبيل بنعبد الله الوحيد الذي أغضبه قرار الرباح بالكشف عن أسماء المستفيدين من كريمات النقل في صنف الحافلات، وقد يشعر زميله أخنوش بالإحراج الشديد، إذا لم يكشف بدوره عن أسماء المستفيدين من رخص الصيد في أعالي البحار والصيد الساحلي أيضا، كما هو الشأن بالنسبة للعنصر الذي عليه أن يحسم في ما إذا كان قادرا على أن يكشف عن المستفيدين من رخص استغلال مقالع الرمال أم لا.