إن الجمع بين الثروة والسلطة هو سمة البلدان الاستبدادية التي لا تميز بين ممارسة السلطة والنأي بالنفس عن الأنشطة المالية. أما البلدان الديمقراطية أو التي شهدت انتقالا ديمقراطيا سلسا وناجحا، فإنها حسمت أمرها وأقرت قوانين تمنع الربط بين الرأسمال السياسي والرأسمالي المالي؛ فالجدل القائم اليوم في الولاياتالمتحدةالأمريكية منصبٌّ على أحقية الرئيس أوباما في بيع كتبه من عدمها، في الوقت الذي يمنع فيه على رئيس أكبر قوة في العالم ممارسة أي نشاط تجاري أو صناعي أو فلاحي. ولعل المتتبع يندهش من تصريح أوباما الأخير، وخاصة العبارة التي يقول فيها: «لا يمكنني أن أطالب الطلبة والطبقات المتوسطة والشيوخ بأداء المزيد من الضرائب، في الوقت الذي لا أطالب فيه أمثالي الذين يتحصلون على أكثر من ربع مليون دولار سنويا بألا يدفعوا أي مبلغ زيادة في ضرائبهم» (مع الإشارة إلى أن في أمريكا يعتبر من يتحصل على دخل أقل من ربع مليون دولار (ربع مليار سنتيم تقريبا) سنويا ضمن الطبقة المتوسطة، وهو المبلغ الذي يتحصل عليه موظف مغربي طيلة 30 سنة من العمل بأجر 7000 درهم شهريا). وفي الدول التي عاشت انتقالا ديمقراطيا ناجحا، بادر زعماؤها الموسومون بالشعوبية -شعبويتهم بالأفعال الإيجابية وشعبويتنا بالكلام المنمق- إلى نهج مجموعة من الإجراءات التي جعلت منهم القدوة لمواطنيهم من أجل الفصل بين السلطة والثروة؛ فقد نجح الرئيس البرازيلي «لولا داسيلف»، المعروف ب«نصير المحرومين» أو «بطل الفقراء»، في نقل بلاده من عداد الدول المتخلفة والمستبدة إلى مستوى الدول الديمقراطية والفاعلة إقليميا وعالميا، وذلك بإعطائه القدوة بنفسه وإيثاره البذل والعطاء والتواضع وعدم جمعه بين السلطة والثروة -التي لم يكن يتوفر عليها أصلا ولم يسع إلى مراكمتها- ومنع نفسه وأسرته من الاستثمار ومشاركة المواطنين أسواقهم؛ وهو الأمر نفسه الذي سلكه رئيس الأورغواوي «خوسيه موخيكا» الذي يعتبر أفقر رئيس دولة في العالم، حيث يتبرع بمعظم راتبه الشهري الذي لا يتجاوز 12 ألف دولار شهريا (أقل من 10 ملايين سنتيم مغربية)، ويحتفظ لنفسه فقط بمبلغ شهري مقداره 1250 دولارا، ولا يمتلك غير سيارة من الطراز القديم. ولم يسلم من هذه الإجراءات الشعبية -وليس الشعبوية- حتى رؤساء بعض الدول الكبيرة والغنية، فالرئيس الفرنسي بدوره تنازل عن 30 في المائة من راتبه الشهري لصالح خزينة الدولة، والملك الإسباني تنازل عن 7.1 في المائة من راتبه وراتب ولي عهده لمجاراة إجراءات التقشف التي تشهدها دولة إسبانيا. ويحاول رؤساء دول ما بعد «الربيع الثوري» مسايرة هذا النفس الديمقراطي، فالرئيس التونسي باع أغلب القصور الرئاسية وضخ أموالها في ميزانية الدولة وتنازل عن 28 ألف دينار من راتبه الشهري واحتفظ فقط ب2000 دينار (أقل من مليوني سنتيم مغربية)، بينما احتفظ الرئيس المصري «محمد مرسي» براتبه كأستاذ جامعي فقط ورفض السكن في القصر الرئاسي الذي خصصه للعمل واستقبال الضيوف، دون أن يسجل على كل هؤلاء اشتغالهم بأمور التجارة أو الفلاحة، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلاء. ما أجمل تلك القرارات التي اتخذتها الحكومة المغربية بخصوص منع الموظفين من مزاولة مهام أخرى بالقطاع الخاص، ولكن الأجمل سيكون لو تندرج تلك الإجراءات في إطار حزمة من القرارات تشمل «علية القوم»، وتمنعهم من الجمع بين السلطة والتجارة والصيد والفلاحة… فالقاعدة القانونية من سماتها أن تكون عامة ومجردة، بحيث لا تشمل فئة دون أخرى ولا يستغل القانون في الإضرار بالفئات الدنيا والسماح بتغول من لا يشملهم القانون ولا تطالهم المحاكم؛ فالقاعدة القانونية التي مؤداها عدم مزاولة من يتسلم أجره من خزينة الدولة لأي نشاط موازٍ، يجب أن تنطبق على الجميع وألا تختص بالأطباء والمعلمين وباقي الفئات الدنيا، فكل من يتحصل على راتب شهري قار من خزينة الدولة وضرائب الشعب، عليه أن يمتنع عن ممارسة أي نشاط تجاري أو فلاحي أو صناعي، سواء أشرف على ذلك بنفسه أو فوض أمره إلى الغير، لأن هذه القاعدة ما وضعت إلا لكي تحمي التنافسية الاقتصادية وتضمن تفرغ الموظف أو رجل السلطة للمهام المنوطة به، وعلى من يمتهن السياسة ويسهر على تدبير الشأن العام أن يتصرف في أمواله المتوارثة أو المكتسبة بالبيع أو الهبة… ويتفرغ لمهامه التي يتقاضى أجره من أجلها. وأما من آثر التجارة أو الفلاحة أو الصناعة أو الصيد… فما فعليه إلا أن يطلق «الوظيفة» أو يتنحى عن تدبير الشأن العام، كي يتفرغ لشؤونه واستثماراته ومشاريعه، آنذاك يمكنه أن ينافس كيف ما يشتهي داخل السوق دون خوف منه أو عليه، وهذا هو مضمون مقولة ابن خلدون المشهورة «الأمير يفسد السوق»، والتي كان يحلو للسيد سعد الدين العثماني وزير الخارجية الحالي الاستشهاد بها أيام كان “معارضا”. إنه بقدر ترحيبنا بأي قرار يسهم في تحسين الإدارة العمومية وينقلها من التخلف والفساد، بقدر ما نتعجب من تلك القرارات التي تستهدف صغار الشعب وتمنعهم من سد ثقوب الراتب الهزيل، في الوقت الذي يجمع فيه المتحكمون بين ممارسة- ليس فقط الوظيفة العمومية والتجارة أو التدريس في مدرسة حرة في وقت الفراغ- وإنما الجمع بين السلطة والراتب الضخم والتجارة والفلاحة والصناعة والصيد في أعالي البحار والمضاربة في العقار والبورصة والتحكم في خيرات الوطن وثرواته الطبيعية.