تعيش طويلا في وجداننا لأن لها قيمة على مستوى الفرجة، قيمة كجزء من الحياة اليومية التي كان الإنسان المغربي يمارسها داخل بيته و في الحي الذي يسكنه و في ساحة المدينة التي يعيش فيها، فهذه الاحتفالات كانت تختزل تطلعات و أفكار و هموم الإنسان في مدينة معينة، و الفن بصفة عامة يستطيع أن يترسخ و يتجذر في التربة كلما استطاع أن يفهم جيدا ما هي تطلعات و أحاسيس و معاناة الإنسان في ذلك الموقع الذي يمارس فيه المسرح ، إذن ليست الغاية من التركيز أو الإشارة إلى الظواهر الاحتفالية هو أن نستعرضها أو ننبهر بها أو أن ننظر إليها نظرة استغراب ، و لكن الغاية هي أن نعرف ماذا تشكل هذه الظواهر الاحتفالية من أهمية من حيث جوانب التعبير، فيما عند الإنسان المغربي، فكثير من الأشياء التي لا نستطيع التعبير عنها بطرق مختلفة...هي أشياء ليست وليدة الصدفة و لكن من خلال النبش فيها نستطيع أن نستخلص مجموعة من النتائج و مجموعة من الخصائص، التي لها دلالات و معاني و لها فلسفة شعبية قامت عليها أولا و استمرت إلى مستوى أن نكون الآن نناقشها رغم قدمها في الزمان و المكان بالنسبة إلينا)). من خلال استعراضنا لقولة الزروالي، أدر كنا معا أن الدافع هو الاتجاه نحو التراث الصويري، فالنبش في هذا التراث يعكس بحق و بوضوح إلى أي مدى كانت تلك الاحتفالات تختزل تطلعات و أفكار و هموم الناس في هذه المدينة التاريخية و الثرية بتراثها، و قبل مناقشة هذه الاحتفالات و خاصة ظاهرة “الرزون” لاستنباط بعض الخصائص و الدلالات التي تحملها، نرى بأنه يتحتم علينا إلقاء بعض الضوء على الجو العام الذي أفرز هذه الاحتفالات. تأسست مدينة الصويرة سنة 1765م على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله على الساحل الغربي شمال مدينة أكادير و جنوب مدينة آسفي، و كانت مركزا تجاريا مهما و أيضا نقطة لحياة ثقافية نشيطة. و لتعمير المدينة بعد استكمال بنائها وفق تصميم فريد أشرف عليه كبار المهندسين آنذاك، تم استقطاب القبائل الناطقة بالعربية من شمال المدينة أي الشياظمة، و القبائل الناطقة بتاشلحيت من جنوبها أي حاحا، أما السكان اليهود فقد كان عددهم ضخما وأما الأوروبيون فقد كان عددهم لا يستهان به. كل هذه المميزات الجغرافية و الديمغرافية و أيضا التاريخية أحدثت نوعا من التلاقح و التمازج جعلت الحركة الثقافية تتأثر به إلى درجة أن النواة الأساسية التي كيفت كل إفراز ثقافي كان مصدره بالضرورة المحيط العام، الذي تتواجد به المدينة (حاحا، الشياظمة، كناوة، البحر، مراكش،...)، زد على هذا أن هذه الثقافة كانت ملتصقة إلى حد ما بالجو الحرفي و تأثير كل ما هو وارد من البحر أي التجارة و أناشيد البحارة و نزهات الحرفيين، فاعتبارا لما سبق، خصوصا قضية ثقافة المحيط ، “الرزون” نفسه يبقى متأثرا بمحيطه كانتقال جماعة من الحرفيين من مراكش إلى الصويرة مطلع القرن 14 الهجري، فلعبت دورا أساسيا إلى جانب شرائح اجتماعية أخرى في نشأة و تطور “الرزون” بمدينة الصويرة. يقول عبد الله المعاوي أن “الرزون” جمع رزين و هو الوقور، لكن ليس هو المقصود في الظاهرة لأنه لا يوجد رزينا يبدأ اللعبة بشرب الشاي و ينهيها بكسر “التعاريج” و تبادل اللكم و المصارعة، بل الرزين مصطلح فني يقصد به الإيقاع الرزين المحكم الذي ينجح ( أفوس) أي الحركة الاخيرة في متواليات الدقة، و الويل لمن كان سببا في سقطة الإيقاع، إذن الرزون يبدأ بالكلمة أي بالحوار شعرا و نشيدا لينتهي بالإيقاع الرزين الدقيق أو الضرب المتبادل سواء بالأيدي أو بأدوات الإيقاع في حالة “طياح أقوى”، أما العلامة الراحل الإستاد احمد الهدري فيشير في إحدى كتاباته إلى إن الرزون في عرف الصويريين عبارة عن مجموعة من الطبوع التي ينشدها بني “عنتر” و “الشبانات” أيام العشر الأولى من المحرم، تبدأ من الليلة الأولى و تبلغ ذروتها في اليوم الثامن الذي يختم بمواجهة طريفة بين حي الشبانات و حي بني عنتر حيث يستغرقون وقتا طويلا في تبادل المهاجاة التي قد يرتجلونها في الغالب، و للأستاذ الجليل احمد الهدري قصيدة ” اشرب أتاي” و هي من وحي هذه الأفراح العجيبة يقو ل مطلعها: سلوا الصويرة ما أذكى حناياها سحر..وأرج منها طيب رياها سلوا بني عنتر، سلوا الشبانة ما طوته هاذي الليالي من خباياها سلوا المواكب في ريعان جذبتها هل حرك الوجد في الأعماق إلاها سلوا رزون الهوى العذري كم سكبت دقاتها من فنون الوجد أغلاها ينبيكم من ذا و ذا حال و موجدة في عمق فتنتها نستشعر الله يا سائلين عن الدقات ترسلها يدا لمرزن مبناها و معناها الآن و قد سلطنا البعض من الضوء على حفل الرزون، نرانا مشوقين إلى معرفة نص “الرزون” المتداول في الصويرة و الذي بطول الوقت ضاع أكثر و أصبح هذا التقليد منسيا رغم بعض المبادرات المحتشمة الداعية لرد الاعتبار لهذا التراث المتجدر في التاريخ: الجماعة: باسم الله بدينا على النبي صلينا باش نبدأ باسم الرحمان اسم عالي الصلاة و السلام على شفعينا نبينا أنا غادي للزاوية نزور سيدي مكدول و المطفية قدام قبة سيدي مكدول عنتر: ارواح تشوف فرحة الزاوية قبة بعلام سيدي مكدول اطرادة خضرا، كتشالي عنترة في حماك أسيدي الجيلالي الشبانات: شيلاه أدار الضمانة قبة مجيرة و الكعدة مزيانة شيلاه أدار الضمانة قبة مشيدة و الصنعة مزيانة بني عنتر: سيد ي الجيلالي لك جينا السر و البها لأولاد مسكينة الشبانات: و اليوم السبت السخينة لعمى و الزحف لأولاد مسكينة الجماعة: خليني نشكي هم راسي إلى نموت لا يبكي حد عليا الزين الهوى ادعيت الباهيا السملالي ايلي يا مالي انت بعيون شرادة و على شفايف عكرية الشبانات: غير اعمر وارا ليا كيسان الجاج ب عتتر: غير اعمر وارا ليا كيسان الطاوس الجماعة: غير اعمر ر وارا ليا سباسا د لعوفيط الشبانات: أنا غادي للزاوية نزور نلقى ولد صغير فم باب الحضار تايعرض لسوار بني عنتر: أنا غادي للزاوية نزور نلقى بعصوص فم باب الحضار تايعرض لسوار الجماعة: أنا غادي للزاوية نزور نلقي الغزال عنتر: حرش العيون فالصالة يدور ولد الحيان بكمية ياللا مجدول حرير الشبانات: مات الفضيل الله يرحمو مازال صغير شاكي باكي يا سيدي احساين مول الباب شاكي باكي يا للا حرش العيون سالو مالي يا للا عند اهبيلة يا للا بني عنتر: كعدة فالشلية كتشالي عيشة بالي كعدة فالشلية كبلير عيشة بالي عيشة عيشة ام دلال تبقي بخير امشينا الشبانات: شافت عيني شي عيون كوحل فدرب العلوج اخويا هلكوني بني عنتر: الزين يا الزين و انا عبدك يا لوالي ديما بيني و بينها شرعية و على شفايف عكرية الشبانات: واش بغى لي عيط ليه الله سلها يا لعشير و مالها عليا بني عنتر: و قال الزين انا بغيت نمشي وقت الرواح هذا ما فيه مقالة الجماعة: انا ما بغيت الشيب اكتب عليا ربي اهيا لهبيلة انا بغيت غير العزري الله نكلسوا فحجري انطيبوعشانا بكري اهيا لهبيلة و الله ما نتزوج شي هذا خير ليا صاحبي يشري لي عبروق مراكشي اهيا لهبيلة بني عنتر: او الكارة دير الدارة وسع الكارة فينكم بني عنتر لسرارة او الكارة دير الدارة و سع الكارة ختنا قدم السلطان كاع نوارة الجماعة: اكريش ولا درهم هاك الكرا تجار الكرا و معلمين الشكارة بني عنتر: كيف جرى وطرى للشبانات خلاو لشياخ اوجابو الهياضة الشبانات: كيف اجرى و طرى لبني عنتر خلاو لشياخ اوجابو المكينة بني عنتر: اشكون اكبيركم يا الشبانات عصمان تبوقيلة و بوكرادا الشبانات: اشكون كبيركم يا بني عنتر علي ورصاص واكلبوا و احمارو عنتر: ضرب الطارة يا لعشير باقي الليل طويل الشبانات: هز الطارة يا لعشير راه عنترة فالويل عنتر: اشهدوا يا ناس علينا راح الحال اصبح الشبانات: احنا بعدما نوضو هنا كاعدين اسيدي برزون بني عنتر: و اللي فزع وما يعرفش يدوي لله واش جابو لينا لهناية الجماعة: الصلاة على زين الزين طه ياسين إن أول ما يبدو لنا و نحن نتفحص هذا النص (الرزون)، هو انه من الناحية التاريخية و الاجتماعية تعبير عن تلك التفصيلة التي تطبع الجو السائد في المدينة بين سكان درب العلوج و سكان الشبانات كما تبينه التقسيمة المعمارية للمدينة من الشمال إلى الجنوب (من باب دكالة إلى الميناء) فكل ما هو شرق هذا الخط فهوالشبانات و كل ما في الغرب فهو بني عنتر، الشبانيون هم من أصل قروي مرتبط بحرف صعبة كالبحر و الميناء، و يمارسون أعمالا يدوية شعبية (حمالون، عمال يدويون، عموما)، و التجمع الديني عندهم لا يخضع للفرق الدينية ذات أصل حضري بل إلى الزوايا ذات جذور قروية، إما بنو عنتر فهم فئة قادمة من مدن عتيقة كمراكش و فاس، جلهم حرفيون و لهم علاقات طيبة مع اليهود، بحيث كانت تتواجد ضمن هذا القسم الطائفة اليهودية، أما عقائديا فهم أناس صوفيون مرتبطون بزوايا لها ارتباط بالمدينة. و لقد ذهب الباحث عبد القادر مانا إلى استنباط الدلالة الاجتماعية من حفا الرزون، حيث يرى بأنه وراء هذه المساجلات أو النقائض الشعرية، هناك بنية اجتماعية شديدة التميز حيث أن رزون عاشوراء كان يعبر في الأغاني عن تناقضات واقعية ، بين القروي و الحضري، بين الغني و الفقير و أنماط حياتهم. إن الرزون جزء من الحياة في مدينة الصويرة تتجلى قيمته فيما يختزنه من تطلعات إنسانية و يفجره من معاني بواسطة الأدوات الجمالية الشعبية، إن إعادة إحياء مثل هذه الظواهر الاحتفالية مسؤولية ثقافية وطنية، و إحياؤها ليس على أساس أنها سلطة مرجعية لأمجاد نستلب أمامها انبهارا و إعجابا ، و لكن نعود لها كأصل نقيس عليه و نستثمره في إطار التطور الحاصل في معارفنا الجديدة المتعلقة بوظائف المسرح. المراجع: الصويرة الذاكرة و بصمات الحاضر (مؤلف جماعي) مجلة منتدى الشعر، العدد رقم 3